لا يمكن البدء بالممارسة الواقعية لمفهوم ما، قبل البحث في خصائصه الجوهرية، وصقله بالحوار والنقاش؛ وذلك ليظل بسيطًا، واضحًا، ومحددًا، وللتوصل أخيرًا إلى تعريف مشترك.
وهذا بلا شكّ مطلبٌ تاريخيّ للوعي، وهو شأن فلسفي مستمر ومتجدد..
وبالفهم يثبت العقل معنى وجوده، بداية، تعمل الحواس كوسيلة اتصال بين الإنسان وبيئته الخارجية، وذلك عبر إشارات عصبية، وتيارات لا نهائية من المعلومات يقوم الدماغ بتحليلها معتمدًا على مخزون الذاكرة من المفاهيم، والخبرات، والمشاعر؛ لتشكيل أفكار جديدة، واتخاذ القرارات المناسبة بناءً على المعلومات التي تم تحليلها.
واستنادًا إلى ما نراه، ونشعر به، ونعيشه، فإنّ المفاهيم الملموسة هي نتيجة تفاعلنا مع العالم من حولنا، عندما نقوم بتكوين أفكار حول الأشياء المادية والأفعال والأحداث التي أدركناها بحواسنا واختبرناها بالتجربة..
أمّا أصدق تعبير عن طاقة المعرفة الكامنة في عقولنا..
والتي تتطلب مستويات أعمق من التفكير والتأمل والثقافة لاستكشاف أبعادها ومعانيها..
فهي المفاهيم المجردة..
تلك التي تشير إلى أفكار أو صفات أو كيانات ليس لها تمثيل مباشر في العالم المادي.
فإذا تأملنا أيًا من هذه المفاهيم المجردة: الحقيقة، العدالة، الحب، الصداقة، الحرية، السعادة.
سنجد أنها تعتمد بشكل كبير على القيم والمعتقدات الفردية والمجتمعية.
فالرموز والوسائل التي يتمّ استخدامها للتعبير عنها تكون مختلفة بين الأفراد، والثقافات، والسياقات.
ولأن فهمنا للمفاهيم المجردة يعتمد إلى حد كبير على اللغة، نجد أنه حتى نفس المفهوم يمكن أن تتم معالجته بشكل مختلف في ذهن الفرد اعتمادًا على ما إذا كان التفسير مجازيًا أم حرفيًا للكلمة.
وأكثر ما تتضح تلك الاختلافات والتباينات، عندما نقوم باستدعاء وتنشيط العناصر الملموسة المرتبطة بها.
ذلك أنّ المفهوم المجرد وإن كان بلا مرجع مادي يمكن تحديده، إلا أنّه يرتبط بالعديد من المفاهيم، أو العناصر المرئية والمحسوسة التي تساعدنا وتسهل علينا استيعابه، وتذكره، وتطبيقه..
على سبيل المثال: يمكن أن يرتبط المفهوم المجرد للحب في ذهن شخص ما بصورة، أو موقف يحمل معاني ومشاعر معينة، أو ذكرى خاصة.
بينما قد تكون العناصر الملموسة لمفهوم الحب من وجهة نظر شخص آخر مرتبطة بتصرفات محددة كالإهتمام والرعاية ..
فالأمر الطبيعي إذًا هنا، هو اختلاف العقول في كيفية الاستجابة للمفهوم، والتفاعل معه.
بينما يجب أن ندرك أن هذه العلاقة ليست ثنائية بسيطة. فالمفهوم لا يكون مجردًا تمامًا أو ملموسًا بالكامل، بل تتنوع درجات التجريد والواقعية بين الأقل والأكثر.
بشكل أكثر تحديدًا : هناك المفاهيم أو الأفكار التي تتعلق بالمؤسسات والهياكل التنظيمية في المجتمع، حيث إن التمثيل المؤسسي للمفاهيم المجردة يمكن أن يساهم في تحقيقها على أرض الواقع من خلال مفاهيم مؤسسية جديدة مشابهة لها داخل النظام القانوني والسياسي والاجتماعي بشكل يعكس توازنًا دقيقاً بين التجريد والواقعية.
على سبيل المثال: دور مفاهيم "العدالة" و "الواجب" و "العدل" وهي مفاهيم أخلاقية مجردة، في تشريع القوانين وتوجيهها لتحقيق المساواة في المجتمعات، وضمان حقوق الأفراد...
وكذلك تتطلب الأشياء المادية المحسوسة مستوىً معينًا من التجريد؛ لتمثيلها كمفاهيم مرتبطة بها، كما تحتاج التجارب الحسية إلى التصورات المجردة، ومن ثم اخضاعها للتحليل والنقد حتى يتسنى لنا فهمها بشكل أعمق..
المفاهيم عبارة عن تصنيفات، أو فئات تلخص وتبسط وتنظم المعلومات بشكل يسهل العمليات الذهنية، ويعزز التواصل مع العالم الحقيقي وهي قابلة للتعديل بمرونة حسب ما يقتضيه السياق، وتفرضه ظروف التجربة.
وقد يحدث أن العقل قد يعي المفهوم المجرد..
لكن لا يتسنى له فهمه بالكامل حتى يتم وضعه في سياق تطبيقي عملي.
أي العيش، والتواصل، والتفاعل اليومي مع محيطه وواقعه من خلاله؛ في حالة توافقية تحفظ التوازن بين الفهم النظري لتلك الصور الذهنية المجردة التي تمثل فكرة أو معنى معين..
وبين زخم تفاعلاتها على أرض الواقع والتي تمنح الإنسان بحركتها وتغيراتها المستمرة النضج والخبرة.
وسواء كانت التجربة فكرية أو عملية، فإنها رغم صخب حياتنا اليومية المختزل فيها، وكثرة التفاصيل والألوان والتوجهات، والتي بحكم التنوع لا بدّ أنها ستكون متشعبة وشديدة التعقيد، إلا أنّها تجعل المفهوم بما تكسبه إياه من أبعاد جديدة أكثر فاعلية واستمرارية..
وتسهم في ارتقاء وعي الإنسان، وتعطيه فهمًا أكثر موضوعية، وتعينه على الوصول إلى تفهُّمٍ أعمق لوجهات النظر، وحقائق الأمور...