الأحد، 11 سبتمبر 2022

التشاؤم في أفضل العوالم الممكنة

 

 هناك اعتقاد شائع بأن التّيقُّظ والتفاؤل
 لا يجتمعان لذات واحدة في نفس الوقت.! 
أو أنّه كلما اتسعت مساحات الوعي والإدراك، زادت تعاسة الإنسان وتفاقم شقاؤه.  
إذّ أنّ التفاؤل في عالمنا المضطرب يا سادة يا كرام "جهلٌ مزدوج" وشكلٌ من أشكال الوهم.!  هذا ما يُرَدِّده أصحاب هذا الاعتقاد مع كلّ مناسبة، أو حادثٍ يؤيد وجهة نظرهم تلك عن التفاؤل.!  
وبالمقابل هناك من يرى أن التّشاؤم وأعراضه المرهقة للرّوح والبدن مرضٌ يستوجب العلاج والتداوي.  
ولأن هذا الانحياز التأكيدي أو الانتقائي مغالطة منطقية لا تغتفر عند كل ذي رأيٍ سديد... 
كان لا بدّ من إلقاء التّحية على جموع المتشائمين والمتفائلين دون استثناء، والذين بالطبع يزداد أو يتناقص عددهم حسب تبدّلات الظروف والأحوال.  
ثمّ إمعان النَّظر في هذين المفهومين، من خلال أشهر موقفين متعارضين، أو بوصفٍ أدق "مختلفين" تناولا هذه المسألة نقديًا وفلسفيًا. وهو ما يعني التمركز في منطقة وسط بين تفاؤل الفيلسوف "لايبنتز" ، ورواية الكاتب الفرنسي ڨولتير "كانديد أو التفاؤل" التي كتبها عام ١٧٥٩ والتي تستحق بالفعل التوقف عند كل تفصيلة وردت فيها. 
لكن ليس قبل أن نتوجه بانتباهنا إلى نظرية الفيلسوف والرياضي الألماني "غوتفريد لايبنتز " الخصم الفكريّ  لڨولتير في روايته الشهيرة.. 
حيث يقول هذا الرّجل الموسوعي بثقة يدعمها "اليقين" الملازم لكل فكرٍ رياضيّ: بأنّ "كلُّ شَيءٍ سيَسيرُ إلى الأَفْضل في أَفْضل العَوالم الممكِنة."  
و"العالم كلٌ متناغم" وهو كما يشرحه لايبنتز عبارة عن "ذرات روحية" متناغمة في نظامها وتنوعها. 
وتلك الذرات أو العناصر أطلق عليها لايبنتز اسم "المونادات".  
والمونادة (μονάδα) أو (μονάς) في اللغة اليونانية القديمة والتي تعني وحدة/ تفرد. 
هي وحدة روحية، أو جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركبات "الأجسام"، وهذا الجوهر البسيط، لا يمكن تصوره إلا بالفكر وحده، غير مادي، لا شكل له، ولا يتجزأ، ولا يفنى ولا ينحل، ويحمل مبدأ تغيره في ذاته.
إذًا فالطبيعة كلها ممتلئة بالحياة، والمونادات تدرك الكون بأكمله باستمرار من وجهة نظر أو زاوية خاصة بها، مثلًا النفس "وحدة" الجسم، والجسم وجهة نظر النفس. 
فهي إذًا مرآة للوجود، والتي تنعكس عليها صور كل الأشياء؛ وذلك لكونها متصلة، وتعمل بتناغم؛ والذي مرده إلى انسجام أزلي مسبق وضعه الخالق فيها. 
لكن ڨولتير، لم يرَ الأمر بهذه الطريقة. ولم يقتنع بأن "كل المعاناة البشرية هي جزء من خطة كونية خيرة ". 
وهذا ما سنجده في كلّ فصلٍ من فصول رواية "كانديد"، الشاب الساذج الذي تربى في قصر خاله البارون وتلقى تعليمه على يد "بانغلوس" أستاذ الميتافيزيقا الذي يؤمن بالتفاؤل، وأنّ ما يحصل لنا دائمًا هو الأفضل. 
وهذا بالطبع في نقد ساخر، واضح، وصريح لأفكار "لايبنتز".  
فهم سطحي لفكرة مجرّدة يواجه بها كانديد وحشية العالم الخارجي بعد انكشاف أمر عشقه لإبنة البارون "كينوغيد"، وطرده من قصر البارون. أجمل القصور وأروعها على الإطلاق كما كان يصفها الأستاذ "بانغلوس".  
وهذا كي يتجلى لنا بتلك البداية التي اختارها ڨولتير بعناية؛ ما في العالم من سوداوية وبشاعة.. 
وليأخذ كانديد إلى مواجهة تخلو من  أبسط الصّفات الإنسانية السّوية، ونتابع بقلق وأسف تصرفاته وهو في أصعب الظروف عندما يكون محاربًا بائسًا في حرب عبثية، جائعا، مفلسًا، مطرودًا، مشردًا بلا وطن وبلا هدف ولا غاية، أو قربانًا في طقس غرائبي لدفع الشّرور والكوارث كالزلازل والبراكين. 
عنفٌ متبادل، قتل، وفوضى، وغياب كامل لروح العدالة، وصوتها في الضمير.. 
لا سيَّما أن الفترة التي تمت فيها كتابة "كانديد"، كانت قد شهدت أحداثًا تنوعت فيها الشّرور، وتكثفت بسببها المآسي بشكل مفزع. 
فهناك زلزال لشبونة المدّمر عام ١٧٥٥.
ثم حرب السنوات السبع التي بدأت عام ١٧٥٦ والتي اشتركت فيها معظم دول أوروبا. 
فكانت من حيث ما تركته من أثر قوي وصادم في نفوس الناس بشكل عام، وڨولتير الناقد الساخر بشكل خاص؛ دافعًا للتساؤل والبحث أكثر في ماهية الشّر، وجدوى وجوده.
لكن أكثر ما كان لافتًا للانتباه أثناء القراءة، وشدني بعيدًا عن العنوان الكبير  "التفاؤل" وما توقعت مقابلته في خانتي الضدّ والنقيض، وحتمًا سيكون التشاؤم، ورؤية وتوقع الأسوأ..  
كان الأسلوب الذي استخدمه ڨولتير  في سرد الأحداث العنيفة والسيئة. 
إذ لم تفارق الرّواية لحظة تلك "اللامبالاة" التي كانت جاثمة على صدر الكلمات كالكابوس. وذاك البرود الكئيب في تداول الحكايات بين الشخوص. 
فليس المهم هنا إثبات التشاؤم كأولوية وحقيقة لا مفرّ منها في هذا العالم الممتلىء بالشرور والتعاسة والنقص والحرمان.  
بل التركيز على شيء آخر!  
أسوأ وأشدّ فتكًا بروح هذا العالم وانسانيتنا.. 
كان ذلك واضحًا وجليًا، وتحديدًا في جزئية العاصفة قرب مرفأ ليشبونة، حيث طغت "ثيمة اللامبالاة" على كلّ شيء: سلوك الركاب على تلك السفينة المشؤومة، وردود أفعالهم غير المتوقعة، ووصف الأحداث والنهايات المأساوية المفجعة. 
وهي متَّسِقة تمامًا مع حالة الذهول والصدمة التي سيطرت على ذهن الشاب المسكين، ومعلمه الذي كاد أن يموت شنقًا وحرقًا في احتفال مجنون، بينما نجا كانديد من تلك التجربة الفظيعة بمعجزة. 
وعندما تبين لي أيضًا أن سبب عذابات كانديد الشاب الذي منحته الطبيعة الطّباع الأشدّ وداعة، لم يكن حسن الظن بالبشر، واعتقاده بأنهم جميعًا طيبون وأخيار...  
بل عندما اعتادوا أن يكونوا غير آبهين، بما فيهم كانديد ومعلمه، بانعدام دورهم في توجيه دفَّة الأحداث نحو الأفضل، والإفراط في التقبل السّلبي لكل ما يتناقض مع فكرتهم عن هذا العالم، وكأنها حياة محصورة بالزوايا والهوامش. ! 
إلى الحد الذي يمكن فيه القول: بأن ڨولتير لم يكن معنيًا كثيرًا بالمقارنة بين الضدين التشاؤم والتفاؤل، أو البت في أيّ من هذين المفهومين يجب أن تستند إليه تصوراتنا عن هذا العالم. قدر عنايته بانتقاد كيفية معيّنة لاستخدام التفاؤل الفلسفي في تبرير الشّر والمعاناة في هذا العالم.
والسؤال الآن، بعد ما شهدته العين من مآسٍ؛ ولاذ القلب بظلال الخيبة والقلق؛ لمن سيعطي ڨولتير  دور "المايسترو" كي يضبط كانديد برفقته رتم حياته..؟!  
معلم جديد يعلمه كيف يكون متشائمًا، ولا يبرر المعاناة مهما كانت الأسباب ؟!
 ربما... 
ثم يؤكد له بأنّ كلّ شيء في هذا العالم وهمٌ أو مصيبة، ولا حلّ لذلك، ولا مفرّ منه إلا بالعمل، وبدون إشغال الذّهن بأيّ أمر آخر، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل الحياة محتملة.. 
أقولها بقلبٍ مطمئن : لا بكل تأكيد. 
إذ لا يمكن أنّ تنتصر إرادة الحياة هكذا. 
كما أن هذا الموقف لا يتوافق مع القرار الذي اتخذه كانديد بمغادرة "بلد الإلدورادو الطّيب" زاهدًا بأحواله المعيشية الرّغيدة، وحسن تعامل سكانه وأخلاقهم الرّفيعة. وذلك للبحث عن حب حياته "كينوغيد" التي كانت أسيرة للمعاناة في مكانٍ آخر بعيدة عنه.. 
كما أنّه يتناقض مع تلك العبارة البليغة المغموسة بالتفاؤل الحذر: «هذا قول حسن، ولكن يجب علينا أن نزرع حديقتنا». 
والتي يختتم بها ڨولتير على لسان كانديد روايته الفلسفية وذلك في ردّه على أستاذه "بانغلوس" الذي كان يحثّه على الشعور بالامتنان لكلّ الأحداث المترابطة في أفضل العوالم الممكنة، بما فيها الفظائع والأهوال التي عاشها في أسفاره، والتي لولاها لما كان الآن مع من يحبهم يأكل أطيب الثّمار.
وكأنه يقول له: آمل ذلك يا أستاذيّ العزيز، ولكن يجب علينا أن نعمل الآن. 
أن نزرع حديقتنا...
. والحديقة، بالنسبة لڨولتير، هي استعارة، المقصود منها، القيام بأعمال مفيدة للإنسانية.
قد تبدو، تفاؤلية لايبنتز، لأول وهلة، ولغير المطلع، وأمام الشرور والفظائع التي عانت منها البشرية على مرّ الزمان، منفصلة عن الواقع، ومثيرة للنقد والسّخرية عند البعض.  لكن، وللإنصاف، لم يكن تفاؤل لايبنتز اعتباطيًا. 
إنما كان نابعًا من ثقته المطلقة بقوة العقل الإنساني، وبمبدأ العلّة الكافية حيث لا توجد نتيجة أو شيء بدون سبب. 
وقد كانت أفكاره َوخطواته في ذلك علّميه ومنطقية ومدروسة، ينسجم فيها العلم مع الإيمان إذ ما حاول أن يتفكّر في سرّ الأزل. 
 إنّ أفضل العوالم، كما يبيّن لايبنتز ذلك، 
لا يعني العالم الذي يتكون فقط من أفضل الأجزاء، أيّ أنه ليس مثاليًا، فالشر موجود فيه حتمًا، تمامًا كما أن "جزء الشيء الجميل ليس جميلًا دائمًا." 
وهو يميز ثلاثة أنواع للشر: الشّر الميتافيزيقي وهو نقص ملازم للموجودات المتناهية، وهذا أمر لا مفرّ منه...
والشّر الطبيعي وهو الألم.
أمّا النوع الثالث فهو الشّر الأخلاقي - الخطيئة- وهو الضريبة الضرورية التي لا بدّ من أدائها للحرية البشرية.
والذي مبعثه سوء إستخدام الإنسان للحرية الممنوحة له من الله.
لكن التفاؤل بقدرة العلم على الكشف عن النظام الدقيق لهذا الكون، وتحسين حالة الإنسان وتنظيم حياته، يجعل هذا العالم يتفوق في أفضليته على اليوتوبيا، حيث يكون الإنسان فيه حرًا في التصرف، وقادرًا على الاختيار بين الخير والشر. 
هذا بالإضافة إلى أنني أرى الكثير من الواقعية في فكره خصوصًا في نظرته التصالحية والتوافقية ليس فقط بين الحقائق والمفاهيم والآراء التي قدمتها الأنساق الفلسفية المختلفة، منذ بدايات الفلسفة وصولا إلى فلاسفة وعلماء عصره.   
بل أيضًا مع هشاشة معارفنا وضآلتها مقارنة بما لا نعرفه.. 
فما هذا الغرور الذي يجعلنا نعتقد بأن الطبيعة ملزمة بتصوراتنا عن الخير والشر..!
أو أن حركة الطبقات الصخرية وتصدّعها، 
التي تنتج عنها الزلازل يجب أن تتناسب مع أحوالنا النفسية والفكرية! 
بينما لو كان الأمر غير ذلك؛ لما تقدم العلم بالملاحظة والتجربة، أيّ حينما أصغى الإنسان بملء حواسه إلى صوت الطبيعة وفهم قوانينها. 
ومن هنا يمكن لي القول: بأن وجود وإدراك الأمور السلبية في عالمنا كالحروب، والأمراض، والكوارث الطبيعية والفجوات البغيضة بين البشر، وغيرها من الشّرور.. 
واتخاذ موقف أخلاقي وانساني، من خلال وجهة نظر متشائمة، لكنها خالية من كدرات العدمية واليأس والعبثية، تقوم بوصفها وتفسيرها وإيجاد الحلول المناسبة لها، والسعي قدر الإمكان لتجنبها قبل وقوعها، 
أو مواجهة الآثار السلبية المترتبة على حدوثها، بشكل لائق وانساني، لا يتعارض مع التفاؤل سواء كان مصدره العقل أو الإيمان، ولا ينفي عن العالم تعريفه بأنه أفضل العوالم الممكنة. 
في عملية تشبه النقد الذاتي للنفس، 
حيث يكون التشاؤم هنا تفاعلا حيًا يرقى إلى درجة عالية من الإنسانية.. 
يصبح هو والتفاؤل وحدة واحدة، لا تنفصل ولا تنفصم، وتسعى بالفكر والعمل نحو الأفضل. على سبيل التشبيه "مونادة" مدركة، واعية، ومتناغمة مع انسانيتنا..
 ******
 هذا ما كان، ويظلُّ لكلّ قارىء زمانه ومكانه، وانطباعاته الخاصة به، وتجربته الفريدة، وحرية المقارنة بين الآراء المتعددة، لإصدار الحكم واتخاذ القرار..✨

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...