الاثنين، 12 نوفمبر 2018

عندما تأتي....

عندما تأتي ... 
تغادرني أطياف الحزن، وضجيج التناقضات، ويرحل عن قلبي ذلك الإرث الثقيل لزمنٍ لم يقرأ الحظ بين خطوط يديك.
عندما تأتي تتشكل علامات عذبة التصور والتصميم، تسطع على الأصوات نبرة ثقة خالصة، بلا غلوّ أو غرور..
عندما تأتي يشهد للقلب ضلع الشوق المستند إلى علاقة أبدية بين حرفين صحيحين أمام وفاء الأغنيتين العائدتين إلى حنين الوتر الساكن.
عندما تأتي تستعيد زهرة عمري البرية كنز إهتمامك العفوي، وحال واقعٍ يستدرج الحلم إلى سماء الوعي حيث لذة الإستيقــاظ على صوتك ومتعة التعلق بأهداب عينيك...
يا حبيبي...
يا سيد الكلمات المنتقاة بحماسة البدايات، وفي قلبك متسع لحديثٍ مشاكس ينبت من الأنفاس المتوهجة.
حديث إمرأة شغوفة بالمعنى وبكل ما جادت به أزمنة الحكايات التي اختزلت دهشتنا وحيرتنا واستجاباتنا في غبطة التجلي الجوهري.

حديث امرأة بسيطة جداً ومفتونة بخفة السماء رغم كل كتلة منظورة ومتحركة فيها.
امرأةٌ عاشقة للديمومة المأهولة بخصائص تحتمل اختلاف تضاريس المكان وتباين منازل الزمان.
لكن، ماذا عساي أن أقول وقد امتزجت في أرواحنا العواطف والأفكار، وأصبحت قمماً موسيقية لا ندركها إلا بتوازنات الحب.
وأنت من يعلم أنه منذ طوقت ملامحك ومفرداتك أيامي، وأنا أحتفظ بها في أعماق الشعور مبدأ رجولة، واكتمال وسامة، وصورة حب مغروسة بامتنان في ذاكرة القلب، أنت الهارب من صخب المرايا إلى صدق بوحي الأنثوي ,ولا شيء أوضح وأصدق من بوح إمرأة رفضت البديل وتقليد السطر الأخير وكل كلمة لا تتعمد اغترابها خارج ذاتها.
وقد عرفت معك متى تكون أبجدية الأنثى حقيقية، فتنتصر بها على يأسها ومخاوفها وأحزانها.
واكتشفت عندما أصبح حبك مساقاً إجبارياً داخل شراييني شكل التحرر من صدى تعاقب الفصول ومن رتمها البطيء الممل بدفء قلب مرهف يتجدد ويراقص ظلام الكون كلهب شمعة ...
فلتأخذني يداك الحانيتان دائماً إليك؛ حتى أتلمس خصوصية تلك العروق الممتلئة بأسباب الحضور، حيث رؤياك الأنيقة التي كلما أشرقت تفاصيلها هندست الشمس ابتسامتها الصباحية، وتسامى الضوء في بلورة الإحساس، وأحببتك أكثر.

الأحد، 21 أكتوبر 2018

تأملات في علم المنطق ...

 

هل وضع أرسطو قوانين المنطق لضبط أساليب الجدل، وتتبع خطوات المناقشة مع السفسطائيين الذين كانوا يرجحون كفَّة أساليب الإقناع على كفَّة صحة البراهين، عندما برعوا في محاكاة كل شكلٍ ولون على حساب الجوهر والمضمون؟ 
أم أن نشأة علم المنطق كانت بدافع الحاجة لقوانين تضبط الفكر في تجاهه نحو التعميم ، وترتب التصورات، وتربط بشكل صحيح الثابت الجوهري بصدق المحمولات. 
وفي الوقت الذي لا تتوقف فيه مجالات العلوم المختلفة عن ابهارنا بما تقدمه من جديد الإكتشافات والإختراعات والفرضيات المشغولة بعناية الحدس والتجربة. 
وعلى اعتبار أن المقدمات المنطقية في الإستقراء هي وليدة الملاحظة والخبرة ،
في حين تعتمد الفرضيات أو المقدمات في الإستنباط على ما تتضمنه مقدمات سابقة من معلومات . 
أليس أمراً لافتاً للإنتباه وداعياً للتأمل ما يدل عليه التناسب الطردي بين تطور العلوم وتطور قوانين المنطق رغم اختلاف المناهج الملازمة لكل منهما؟! 
المنطق كما يعرّفه المناطقة هو آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وترشده إلى تصحيح أفكاره، وموضوعه المعلومات التصورية والتصديقية. 
يمكن اعتبار فن الجدل الفلسفي الذي أوجده زينون الإيلي (490-425) ق.م 
المادة الاساسية التي بنى عليها آرسطو "التحليلات" أو ما سمي لاحقاً بالمنطق.
وإن كان زينون في نقاشاته يسلم بإحدى قضايا خصومه ليستنتج منها نتيجتين متناقضتين تمكنه من اثبات بطلانها. 
فقد أوجد أرسطو ما يعرف “بالحد الأوسط” ليسهل الإستدلال المنطقي للقضايا في الاستدلال غير المباشر وعلى موقعه تتحدد أشكال القياس . 
وهو يتكون من ثلاث قضايا:
المقدمة الكبرى تشير إلى القاعدة العامة،
والمقدمة الصغرى التي تمثل الواقعة الخاصة؛ لتكون الأخيرة هي النتيجة المحتومة. 
وقد يكون الاستدلال استقرائي أي من الخاص إلى العام، أو استدلال استنباطي ينتقل من العام إلى الخاص. 
وهنا أذكر المثال الذي قدمه أرسطو :
 كل انسان فان (مقدمة كبرى) 
سقراط انسان( مقدمة صغرى) 
اذن سقراط فان (نتيجة) . 
صحيح أن العقل غير معصوم عن الخطأ، لكن على الفكر أن يكون منسجماً ومتناغماً مع نفسه، وذلك لا يتحقق إلا بمراعاة مبادئ وقوانين المنطق. 
ومبادئ المنطق، أو البديهيات التي يرتكز عليها العقل لكي يكون التفكير سليماً هي :
 1. مبدأ الهوية أو الذاتية : ويعني أن الشيء يبقى هو هو لا يتغير ولا يتبدل،أي أنه يجب أن يكون مطابقاً مع ذاته وإن طرأت عليه تغيرات في صفاته ويعبر عنه رياضياً بصيغة أ=أ
 2.مبدأ عدم التناقض: بمعنى أن يكون الشيء موجود وغير موجود في نفس الوقت. ورمزه "الشيء لا يمكن أن يكون "أ" و"لاأ" في نفس الآن".
 3. الوسط الممتنع أو المستبعد أو المرفوع: أي أن لا وسط بين النقيضين ورمزه إما أن يكون الشيء "أ" أو" لاأ" 
4.مبدأ العلية : وهو المبدأ الذي يقول أن لكل شيءٍ سبب ولكل معلول علة وهي أربعة كما حددها آرسطو العلة المادية، الصورية،الفاعلة والغائية. 
والقضايا بالنسبة لأرسطو تنقسم باختلاف الكيف والكم إلى أربع أنواع هي الكلية السالبة أو الموجبة، والجزئية السالبة أو الموجبة. 
أما النوع الثاني من الاستدلال في منطق آرسطو التأملي هو الإستدلال المباشر وينقسم إلى نوعين : التقابل والتكافؤ  التقابل : استنتاج صدق أو كذب قضية من قضية اخرى تتفق معها في المحمول والموضوع وتختلف معها في الكم والكيف أو الأثنين معاً وأنواع التقابل: 
التضاد: يقوم بين كلية موجبة وكلية سالبة وهما لا تصدقان معاً، ولكن قد تكذبان معاً. 
الدخول تحت التضاد: ويكون بين جزئية موجبة وجزئية سالبة، وهما لا تكذبان معاً، ولكن قد تصدقان معاً. 
التناقض: وهو بين القضيتين المختلفتين كماً وكيفاً، أي بين كلية موجبة وجزئية سالبة، و بين كلية سالبة وجزئية موجبة، والمتناقضتان لا تصدقان معاً ولا تكذبان معاً التداخل: إذا صدقت الكليات فإن الجزئيات تصدق بالضرورة، وإذا كذبت الكليات فإن الجزئيات تحتمل الصدق أو الكذب ولا تكون معروفة . 
وإذا كذبت الجزئيات فإن الكليات تصدق بالضرورة. 
وإذا صدقت الجزئيات فإن الكليات تكون غير معروفة.
أما التكافؤ (التعادل): فهو الحصول على قضية جديدة من قضية ما أصلية، بحيث يكون للقضيتين قيمة الصدق نفسها، وأنواعه: العكس المستوي: هو تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف والصدق. 
نقيض العكس: يصبح موضوع القضية هو محمول الأصلية، ومحمولها نقيض موضوع الأصلية. عكس النقيض: أي إجراء نقض محمول للقضية الأصلية ثم إجراء عكس مستوي للقضية التي تم الحصول عليها.
 نقض الموضوع: يتم الحصول على قضية جديدة موضوعها هو نقيض موضوع الأصلية، ومحمولها إما محمول الأصيلة نفسه أو نقيضه. 
أما الحد المنطقي هو لفظ أو مجموعة ألفاظ تصلح أن تكون طرفاً في القضية وهي مفردات المقدمتين الموضوع والمحمول وينقسم الحد من حيث الكم إلى حد كلي أو جزئي ومن حيث الكيف إلى حد موجب يعطي صفة أو حد سالب يسلب صفة.
 أما الجمل فتسمى قضايا منطقية وهي جمل خبرية تخبر عن شيء أو يخبر بها وهي تحتمل الصدق والكذب. 
وبناء على ذلك فالجمل الإنشائية التي تحتوي على التعجب أو السؤال،الأمر، أو التمني ليست جمل منطقية. 
بينما تنقسم القضايا في المنطق بشكل عام من حيث التركيب إلى بسيطة حيث تقتصر مكونات القضية على  موضوع ومحمول. وقضايا مركبة وهي التي  تتكون من قضيتين بسيطتين أو أكثر بينهما رابط قضوي والروابط هي:
 1. السلب، النفي (لا-ليس) 
2. العطف (و)
 3.الفصل (أو- أما)
 4. الشرط (إذا)
 أما أنواع القضايا من الناحية الكيفية فتنقسم إلى:
 1. تكرارية وهي صادقة دائما 
 2. متناقضة يستحيل صدقها
 3. عرضية وهي تحتمل الصدق والكذب.  وضع آرسطو أسس وقواعد علم المنطق الصوري بشكل أقرب للإكتمال، حتى ظن الفيلسوف الألماني "كانت" أنه العلم الوحيد الذي وصل إلى الكمال. 
فالتاريخ الطويل الذي حظيّ به المنطق الآرسطي يجعلنا ندرك مدى أهمية تلك التقنيات والآليات المبهرة. 
فهي بالفعل كانت أصدق تعبير عن جوهر وقيمة النشاط العقلي في واحدة من أهم مراحل سعيه الدؤوب نحو الحقيقة. 
وقد ظل المنطق على صورته تلك حتى تم تطويره في القرن السابع عشر، وتجاوز ما لم يعد قادراً على توفير الإيجاز الدقيق والوضوح لأصناف الإستدلال في حقول العلم المختلفة وفي مقدمتها الرياضيات . وكانت أول الأسماء الهامة في تطور المنطق من صورته الكلاسيكية التقليدية إلى صورته الرمزية هو غوتفريد لايبنتز  G.W.Von.Leibniz (1646-1716)
وهو عالم رياضيات وفيلسوف ألماني ، مؤسس علم التفاضل والتكامل الرياضياتي ومكتشف قانون الاستمرارية وقانون التجانس المتسامي. 
أما الأسباب فيحق لها أن تتعدد. 
لكن يبقى أهمها من وجهة نظر الرياضيين هو الحاجة العقلية والعلمية لقواعد منطقية أكثر عمومية ترتكز على فكرة الكم، وتستوعب وتقيم الإرتباطات العقلية غير النهائية بين التصورات.
 أيضاً ظهور ما يسمى بالمفارقات والمغالطات المنطقية، وظهور النزعة الشكية، وانتشار فكرة النسبية .. 
كل تلك العوامل ساهمت في حدوث ذلك التطور.
لذا وجدت أنه من المهم البحث في أوجه القصور في المنطق القديم من خلال هذا العرض البسيط والمختصر.
من المعروف أن منطق آرسطو يتناول الموضوع من الناحية الكيفية حيث تدخل الصفات في علاقة إسناد مع الأشياء بواسطة التأمل الخالص .
وتصورات الحدود هي رؤية ذهنية وعقلية خالصة لطبيعة الأشياء.
لكننا نجده على الرغم من صوريته يستقرئ الموجودات للحصول على تعميمات صالحة لكل زمان ومكان. 
 أي أنه ينزع نحو الوصف الموضوعي، لكنه في الحقيقة لا يخرج عن حدود عملية عقلية تحليلية،  وهو ما جعل المقدمات الكبرى تبدو أقرب إلى العبارات الذاتية بما اعتراها من نقص في التدليل والتعليل. 
وعليه يمكن القول: أنه هنا تحديداً تقبع النقطة التي أغلق بها الزمن الدائرة حول المنطق القديم. 
ففي المنطق الصوري حيث يتولى المنطق تعريف الماهيات في مكان وزمان محددين يغيب أحد أهم أبعاد المنهج العلمي، ألا وهو اخضاع القضايا لمبدأ التحقق؛ أي فحصها بالتجربة لمعرفة مدى مطابقة تلك القضايا للواقع . 
أما المنطق الحديث والمعاصر فهو يصدر أحكامه بأدوات التعبير الرياضي والتحليل والإستنباط، مستعيناً بالملاحظة التجريبية وبالنماذج الرياضية للعلاقات الكمية؛ ليحصل على نتائج موضوعية يمكن تعميمها.. 
أي أن قضاياه عقلية تحليلية، لا يضيف محمولها خبر جديد لموضوعها، وهذا يعني عدم وجود تناقض. 
كما أن الحجة الإستنباطية لا علاقة لها بصحة أو خطأ القضايا، طالما أن النتائج تلزم عن المقدمات تكون الحجة صحيحة وإذا لم تلزم تكون الحجة باطلة. 
بمعنى أن صدق الحجة يتوقف على العلاقة بين المقدمات والنتائج والشكل والصورة بغض النظر عن مطابقة الواقع.
 والسؤال هل المنطق علم أم فن ؟ 
فالمنطق يوصف مرة بالعلم وتارة بالفن، لكن أرسطو يسميه أورغانون : (آله العلم) "Ὄργανον على أساس أن المنطق تعريفات وقضايا واستدلالات ونتائج. 
والحدود أجزاء قضية محددة بفهم معين للموجودات. 
أما المقولات عند أرسطو عشرة ، جوهر وتسع محمولات، وهي أعم الصفات التي تطلق على الموجودات منطقياً.
 1. الجوهر: هو كل ما له صفه الاستقلال بذاته، والموجود الذي تضاف إليه جميع المحمولات الأخرى وعلة سائر الموجودات ،وينقسم إلى جوهر مادي :الإنسان مثلاً وجوهر معنوي :العدالة
 2. الكم :كلّ ما يمكن قياسه أو عدّه وسؤاله "كم"
 3.الكيف: وهو هيئة الشيء وما يطرأ عليها من عوارض .
 4. العلاقة، النسبة المتكررة، الإضافة: تعبر عن الطريقة التي ترتبط بها الأشياء
 5. المكان:هو موضع وقوع الفعل هيئة الجسم بسبب نسبته إلى المكان وكونه فيه. 6.الزمان: تاريخ حدوث الفعل ونسبة الشىء إلى الزمان المحدد.
 7.الحال: يتحدد بهيئة وجود الشيء
 8.الملكية: تبعيّة شيء أو أشياء إلى موضوع معيّن وله شرطان: الإحاطة وأن يتنقل بانتقال الموضوع.
 9.الفعل:يعبّر عن صدور فعل يؤثر فى غيره 10.الإنفعال: هو قبول أثر المؤثر ما دام مؤثراً وجمعيها مقولات منطقية ذهنية ومعاني كلية لا تستقيم المعرفة بدونها.وقد نوقشت تلك المقولات والتعريفات ببراعة في مؤلفات ابن رشد وابن سينا والفارابي.. وقد اختصرتها المدرسة الرواقية إلى أربع: 1.الموضوع
 2.الصفة أي تعين الموجود وصورته 3.الحال الخاصة أو الصفة الذاتية
 4. الحال النسبية أو صفته النسبية. 
أما الموجودات في المنطق الآرسطي فهي مقسمة إلى فئات، كل فئة مشمولة من فئة أعم منها. 
والتعريف كما يرى آرسطو "بداية العلم ومنتهاه وغايته الوصول إلى الماهية" أي القيام بتحليل الاسم والمفهوم الكلي الى أجزائه وتحديد الصفة الاساسية أو الأصلية له سواء أكانت بالقوة أو بالفعل. 
وهنا يختلف مع أستاذه أفلاطون إذ أنه لم يقبل أن تكون هناك نماذج عالمية كلية من الأفكار أو "المثل".
لذا بدأ بتحديد تصوراته من حيث تشكل الفكرة والمادة معاً جوهر العالم، معتمداً على معطيات الحواس بالمشاهدة والملاحظة، منتقلاً من الجزئي إلى الكلي. 
فالكلي يكمن في الوجود ذاته وعلى الباحث ودارس الظواهر الطبيعية الاجتهاد لإخراجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. 
أي ادراك الغاية التي تصل الموجودات إلى تحقيقها ولذلك عرّف أرسطو الفلسفة بأنها علم المعلوم الأسمى. 
فالطبيعة لا تفعل شيئا عبثا فهي تتحرك من أجل غايات.
 لكن النتائج جاءت على عكس ما كان يهدف له أرسطو في حال كان يريد من منطقه أكثر من التحليل ، فلم تكن النتائج مطابقة للواقع خصوصاً ما تعلق منها بالطبيعيات . 
وذلك لأنه كان يقوم بتقديم تفسيرات معينة للطبيعة والحركة مستعيناً بتقنيات عقلية مجردة، معتقداً أن قوانين الطبيعة لا تختلف عن قوانين العقل أو الفكر البشري، ومع غياب التجربة ستأتي النتائج في الغالب بعيدة عن الواقع، أو مجافية للصواب.
 فالعلوم الطبيعية فكرها تركيبي، وعباراتها يجب أن تحمل معلومات جديدة وهي عباراتٌ احتمالية لإعتمادها على التجربة وصدقها مرتبط بالواقع أو كل ما هو ظاهر للحس وأدوات التجربة.
 إن المنطق الأرسطي بتلك الطريقة يعتبر اشكالية حقيقية فهو حين يقوم بالقياس بتصورات مجردة لا تشير إلى شيء محسوس يكون المنطق لغوياً وعقيماً وبلا فائدة كما يصفه منتقدوه. 
لكنه أيضاً لن يكون على ما يرام فيما لو اتجه إلى الحديث عن الوقائع الملموسة. 
وعلى ذلك يترتب الآتي : 
إن المنطق نشاط عقلي خالص لكن جانبه العملي يتمثل بكونه علماً معيارياً وذلك بما يتضمنه من أحكام تعيّن ما يجب أن تكون عليه الأشياء ... 
مما يعني أنه ليس من شأن المنطق أن يخبرنا أي من المعتقدات يجب علينا أخذها أو تركها، فمجاله هو كشف زيف القضايا أو اثبات صحتها بما تمتاز به من اتساق أو عدم اتساق فئاتها بالتناقض. 
والبت في اتساق المقدمات أو الفرضيات مع النتائج والحكم على استلزام أو عدم استلزام المقدمات للنتيجة القائلة بها. 
أما التناغم بين تقنيات المنطق والعلم فقد تبين لي على النحو التالي: 
يقوم العلم بتقديم المقدمات والفرضيات التي تشكل معارفنا. 
يتداخل المنطق مع العلم في مجموعة القوانين التي يقدمها لتتحقق عصمة الذهن عن الوقوع في الخطأ. 
تلك القوانين التي تمكن الذهن من تصنيف القضايا إلى صادقة وأخرى كاذبة وتمييز البراهين السليمة والفاسدة .
 ومن حيث تكون المقدمات او الفرضيات في القضايا مقبولة نتيجة علاقاتها المنطقية بمقدمات سابقة أثبتت صحتها بالملاحظة والمشاهدة التجربة .
 لكن آرسطو قدم في المنطق فكرة ذات أهمية بالغة وهي فكرة المتغير "Variable" لتمثيل الحدود المستعملة في البراهين بصورة مجردة تماماً من المحسوسات. والمتغير رمز أو حرف يقوم مقام أي سلسلة من المقادير والقيم. 
فإذا كان لدينا س² =4 كانت س متغيراً محل كل من المقدارين +2 و-2
 وإذا كان لدينا س+ ي = 7 
كان س ، ي متغيرين يمران بصف الأعداد واحداً واحداً ابتداً من الصفر حتى 7 وهكذا. 
بيد أن المنطق الرمزي يتوسع أكثر في استخدام المتغيرات فهو منطق كمي يهتم بوصف الوسائل فقط، ويترك التعريفات إلى ما اتفق عليه العلماء محفوظاً بالمراجع و القواميس، وأهميته لا تقتصر فقط على الرياضيات بل تمتد أيضا إلى مجال فحص صحة أصناف أخرى من البراهين حيث تسهل الرموز كشف التناقض وازالة الإلتباس الذي يسببه غموض بعض الألفاظ. 
حاول ليويس C.I.Lewis وهو فيلسوف وأكاديمي أمريكي ، مؤسس البراغماتية المفاهيمية وله كتابات مهمة في نظرية المعرفة والمنطق الرمزي والمفاهيم الفلسفية للمعرفة والقيمة تسجيل ثلاث خصائص مميزة للمنطق الرمزي. 
وهي مذكورة في كتاب مقدمة في المنطق الرمزي / أ.ه.بيسون, د.ج.أوكونر على النحو التالي: 
أولاً: يتميز المنطق الرمزي باستخدام الرموز العقلية أو الأيديوجرامات "Ideograms" التي تشير مباشرة إلى التصورات بدلاً من العلامات الصوتية الفونوجرامات . 
مثال على ذلك الرمز الدال على علية الضرب (x) أو علامة الإستفهام (؟) . 
ثانياً: يتميز المنطق أيضاً بالمنهج الإستنباطي أو بالإستدلال وهي القدرة على توليد عدد لا حصر له من الأحكام الجديدة الباهرة من عدد صغير من الأحكام عن طريق تطبيق عدد قليل من القواعد. 
ثالثاً: يتميز المنطق الرمزي باستخدام المتغيرات ذات المواضع المحددة من الدلالات. 
والسؤال الآن هل ستؤدي نقاط الاختلاف بين المنطق القديم والمنطق الحديث والمعاصر إلى الخلاف والقطيعة؟؟ 
بالطبع الجواب: لا... 
وذلك في ظل غياب منهج استقرائي أو استنباطي قادر بشكل تام وكامل على عصمة الذهن من الزلل في جميع القضايا اللامنتاهية . 
فالمنطق الرمزي هو شكل متطور للتصورات والتقنيات التي تضمنها منطق آرسطو وما قدمته المدرسة الرواقية وفلسفة الميغاريين وأعمال الكندي وابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم من علماء المنطق في الحضارة الإسلامية. 
وهما يتكاملان في سبيل تحقيق عقلانية العلم ما دامت حسابات القضايا لدى الطرفين نتنج قضايا جديدة وصحيحة منطقياً ونتائج لا يختلط فيها مفهوم العقلانية باليقين المطلق!
 إن الفكر يبحث في المعلوم لمعرفة المجهول، وأهم موضوعات المنطق هو إنشاء تعريف وهو ما يتطلب استخدام اللغة الطبيعية كقنوات ناقلة بين المدلولات ودلالاتها مما يعني أن اللغة تحتل مكانة رئيسية ومركزية في المنطق. 
كما أن لفظ المنطق لغوياً مشتق من النطق ..
 ولا يستقيم الخطاب اللغوي دون احتكامه لقواعد المنطق إذ تصبح مفراداته ميته جوفاء لا معنى لها . 
تلك العلاقة العميقة والمتداخلة التي يصفها أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي بقوله: 
" إن النحو منطق لغوي، والمنطق نحو عقلي". 
فهل سيكون حال المنطق بالرموز كما هو حال اللغة بلا منطقّ! 
اعتقد لايبنتز أن الكثير من المنطق البشري يمكن اختزاله إلى حسابات من نوع ما ،
 وأن مثل هذه الحسابات يمكن أن تحل الكثير من الاختلافات في الرأي: 
فالطريقة الوحيدة لتصحيح اعتقاداتنا هي جعلها ملموسة مثل تلك الخاصة بعلماء الرياضيات ، حتى نتمكن من العثور على أخطائنا في لمحة ، وعندما تكون هناك خلافات بين الأشخاص ، يمكننا ببساطة أن نقول: دعونا نحسب دون مزيد من اللغط ، لمعرفة من هو على حق. 
وهو يرى أن جميع أفكارنا تتضاعف من عدد صغير جدا من الأفكار البسيطة ، التي تشكل أبجدية الفكر الإنساني. 
فالأفكار المعقدة تنطلق من هذه الأفكار البسيطة عن طريق تركيبة متناسقة ومتماثلة، مماثلة للتضاعف الحسابي. 
كما يطرح برتراند راسل وهو أحد أهم علماء المنطق في القرن العشرين ويعد هو وألفريد نورث وايتهيد (1861 - 1947) واضعا علم المنطق الرمزي أو الرياضي . 
يطرح في كتاب "ما وراء المعنى والحقيقة" عدة اشكاليات في هذا المجال منها :
 - "ما مدى تطابق الأقسام المنطقية للغة مع عناصر العالم غير اللغوي ؟" 
- "لقد أعطينا اللغة لتمكننا من اخفاء أفكارنا وبالتالي عندما نفكر في اللغة كوسيلة لتقرير حقائق نكون قد افترضنا بالتالي وجود رغباتٍ معينة للتحدث.
 فاللغة بمقدورها تقرير الحقائق والزيف معاً" - "هل من الممكن معرفة أن كلماتنا صحيحة دون أن يكون لدينا معرفة غير لفظية بالحدث الذي تنطبق عليه؟" 
إذاً ليست وحدها دروب المعرفة معقدة ومتشابكة، فاللغة أيضا لها نظامها وبنيتها الأكثر تركيباً تعقيداً. 
وهذا يتطلب من المنطق أن يتجه تلقائيا إلى عملية تبسيط تجنبه عناء البحث عن تعابير ملائمة ودقيقة للأحكام وتختصر الوقت والجهد المبذول في محاولة إدراك معاني الألفاظ، وبذلك يصبح المنطق بالفعل عملية عقلية خالصة بعيداً عن ألفاظ اللغة الطبيعية وما تتضمنه من تأثيرات.
 وما فهمته من كل ما سبق أن مفتاح الحل هو التعبير عن القضايا بواسطة رموز بحيث يمثل كل رمز بشكل دقيق كلمة أو عبارة موجودة في القضية.
 أما الكشف عن القضايا والتحقق من مدى مصداقيتها بالنسبة للمنطق الرمزي الرياضي، يكمن في دراسة العلاقات بين المتغيرات من خلال محتوى من قيم متغيرة أو بيانات ومعلومات تحمل قيم محددة لها علاقة بموضوع أو فئة معينة، تخضع لاثبات براهين تماسك النتائج مع المقدمات والذي يتحدد بمدلولات الثوابت المنطقية بين المتغيرات. . 
والملاحظ في السياق التاريخي أنه مع مرور الزمن تصبح أنساق المنطق أكثر مرونة، وقرباً من الرياضيات ، فالقضايا تعالج بمشرط الكم، حتى كلمة " لا نهائية" التي نجدها ضمن تعريف الأعداد الأولية وفي الكثير من المسائل يفرضها المنطق الرياضي على العقل ببساطة مدهشه فيتقبلها دون أدنى مشكلة، ويبني عليها ... 
والبديهية هي قضية يقينية بذاتها أي لا تشتق بوسائل الإستنتاج، ولا تحتاج إلى برهان لكنها تعطي نتائج، ومخالفتها تعني مخالفة المبادئ الفطرية للعقل ونذكر من أهم البديهيات تلك التعريفات التي اعتمدها إقليدس :
"الكل أكبر من الجزء"
"طرح نسب متساوية من نسب متساوية يؤدي إلى الحصول على نسب متساوية حتما" مثالاً عليها. 
ولا يقتصر الأمر على بداهة المفاهيم الرياضية كمعيار للصدق فالأنساق الرياضية بكونها صورية أي لا يحكم على صحتها بمدى مطابقتها للواقع تجسد لنا بخلوها من التناقض وانسجامها الداخلي مفهوم اليقين المنطقي. 
أيضاً ظهور النسق الأكسيومي أو منظومة الأوليات وهو نسق صوري واسمه مشتق من اللفظ اليوناني"αξίωμα" وتعني مسلمة أو قاعدة مفترضة يضعها الرياضي ويلتزم بها في براهينه. 
والأكسيومية أسلوب في الإستنتاج يستخدم في بناء نظرية رياضية،حيث ينطلق ﻤﻥ مقدمات هي مبادئ أو مفاهيم بسيطة أو أوليات ليصل إلى قضايا أخرى مركبة جديدة تترتب على تلك المقدمات. 
ويبدو واضحاً أن التجربة لا علاقة لها بصحة الإستنتاج، بل أن قيمة النسق تستمد من الإتساق. 
فالهندسة التي كان يقينها مرتبطاً بالواقع تحولت إلى هندسات افتراضية متعددة لها أنساقها المنطقية، كل منها قائم على تصور متخيل للمكان. 
أما يقينها فلم يعد يستمد من الأشكال الهندسية الموجودة في الواقع، بل من اتساق الفرضيات والنتائج . 
حتى أن تعدد الأنساق المنطقية الرياضية دفعت البعض إلى القول أن تعددها يفقد الرياضيات يقينها وقيمتها، رغم أنها يقينية من حيث المنهج وأساليب البرهنة، وهم في موقفهم هذا يشبهون اللغويين والنحاة في تعصبهم لأكثر الأعمال الأدبية شهرة لا أكثر ولا أقل. 
في النهاية تبقى لغة الرياضيات لغة عالمية، مكنت العلوم من صياغة نظرياتها، وفرضياتها وسواء كانت وسيلة أم غاية، فلا يمكن تجاهل دورها في الوصول إلى منهج علمي قادر على مواجهة الواقع وتفسيره وتحديد مفاهيمه. 
وفي الحقيقة لم أجد تعبيراً أكثر دقة وانصافاً مما قاله غاستون باشلار 
"إن تطور الرياضيات يضعنا أمام حقيقة هامة ، وهي أن الفكر الرياضي لم يكتف فقط باستخلاص المجرد من المشخص، بل أصبح ينشئ المجرد ويعرضه على التجربة لتكون مطابقة له " 
ومن الطبيعي أنه في حال لم يعد المنهج قادراً على استيعاب بعض أنواع القضايا أن يتم استحداث نسق جديد وقواعد ملائمة فهناك على سبيل المثال لا الحصر المنطق الضبابي أو منطق الغموض الذي يبحث في نمذجة وصياغة أساليب الإستدلال غير الدقيق "التقريبي". 
وهو يتميز عن المنطق ثنائي القيم ومتعدد القيم من حيث أنه يسمح بتدرج القيم وبالتعبير عنها لغوياً، فالقضية الصادقة قد يعبر عنها ب صادقة، صادقة بالكاد، إلى حد ما صادقة ، كذلك عندما تكون كاذبة أما مجاله العملي يظهر في برمجة الذكاء الإصطناعي . 
في سياق متصل، وبعيداً عن تعقيدات المجاز، أي من جهة المعنى الذي يرتبط بدلالة الألفاظ والأقوال والعبارات والقضايا. 
حيث يكون ادراك المعنى مرتبط انثروبولوجياً بالسلوك والإمتداد والترادف. 
وتحديداُ إلى كتاب "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" للفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو . يتحدث الكاتب بشكل رائع عن كيفية ادراك معنى المفاهيم الفلسفية بما في ذلك أهمية العودة إلى القواميس والإطلاع على مرادفات وأضداد الكلمة . 
وهو يطرح كلمة "اللاعقلاني" مثالاً فكانت مرادفاتها في الألمانية كالتالي: 
Unlogisch غير منطقي
 Unsinnig بلا معنى ووصف يجمع بين السخافة والحماقة. 
 أما في الإنجليزية فقد كانت كالتالي : Incoherent غير مترابط مفكك
 Absurd سخيف
 Senseless لا معنى له أو عبثي. 
 إن هذه المصطلحات تشير إلى شيءٍ يتجاوز الحدود التي يقيمها معيار ما فإذا ما عرفنا أن أحد أضداد كلمة "لاعقلاني" هو: Moderateness ومعناه أن تكون معتدلاً،  فإن اللفظ اللاتيني "Modus" كما يقول إيكو ومعناه عدم تجاوز الحدود والمقاييس يذكرنا بقاعدتين مستلهمتين من الحضارتين الإغريقية واللاتينية:
 الأول يتعلق بالمبدأ المنطقي للحد المطروح. أما الثاني فيتعلق بالمبدأ الأخلاقي الذي صاغه الشاعر والناقد اللاتينيّ "هوراس" بقوله "إن الحد يوجد في الأفكار، والأفكار اليقينية هي تلك التي تشكل حدوداً وتقع على الجانبين من الخط" 
ومن هنا أقول وبمناسبة الحديث عن المعقول واللامعقول : 
يكفي أن نتأمل في سيرورة علم المنطق، حتى ندرك أن لا شيء يمكنه أن يسلب منه قيمته وحقيقة تأثيره في تطور المعرفة.
فالناس، وقبل أن يؤسس حكيم المشائين ارسطو أول نظام منطقي في التاريخ، وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية، يستخدمون المنطق في حياتهم اليومية بشكل تلقائي، ويحاولون قدر المستطاع معالجة عيوبهم الفكرية بضبط الأفكار والمفاهيم والأحكام. 
ولو قمنا بتحليل أي مفهوم موجود بين أيدينا اليوم لأدركنا كيف تتكامل العلوم والاختصاصات المعرفية والخبرات في نمو المفاهيم وتطورها، تلك التي لا يستقيم حال الوعي إلا بتحديدها ورؤيتها بشكل صحيح من جميع الزوايا .
 فكم مرة استوقفتني براعة سقراط في محاوراته، عندما كان يأخذ الديالكتيك إلى الحد الذي لا يقبل التعريف العشوائي، وكأنه وبأدب وتواضع المحاور المتمكن من أدواته يترك المجال للحقيقة كي تثبت نفسها منطقياً في أذهان الجميع . 
كذلك لمعة "العطف" في عيني أفلاطون 
حين كان يطلب من تلاميذه في بساتين أكاديموس، وبينما هم في ذروة انشغالهم بخلافاتهم واختلاف معطيات إحساساتهم تكرار مُحاولة تعريف الأشياء
 "بلا حسدٍ أو لؤم" وباستدلال لا ينفصل فيه العقل عن الحدس، على نحو أفضل وأقرب إلى المثال فتشكلت على أساس عبقريته، وحكمته فكرة القانون المنطقي. 
وعلى قدر ما تقلقني الفوضوية عندما تقوم برمي لامعقولها كله كنتيجة في وجوهنا وطرق وجودنا أفراداً ومجتمعات؛ 
أحترم كل ما بُنيّ على علمٍ ومنطق، واعتدال في الإعتقاد والفكر والسلوك .. 
وهو ما يدفعني إلى تساؤل ممزوج بالتمني عن قيمة وأهمية وجود إعلام حقيقي يدرك أن أخطر ما في لامعقولية الإشاعة هو التزييف المتقن لحدود كاذبة تدعي وجودها. 
إعلام يستذكر خبرة ومهارة منطقه، فلا يصهر وجهات النظر والأراء والصور والأخبار والحقائق في بوتقة المحتوى قبل تعقل مضامينها وفهم علاقاتها... 
والخلاصة هي أننا عندما نكون بصدد عملية اثبات الصواب أو الخطأ لمضمون فرضية أو تعريف...
علمياً سيتم الحكم عليه من خلال التجربة ، لكن البنية الصحيحة للمضمون لا تعتمد على الخبرة فقط ، بل هي مسألة منطقية لا تخلو من ومضات حدسية !

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

سيمفونية الشغف


بينما نتأمل عالمنا الذي يطفح الروتين والقهر من كافة امتدادات جدرانة الباردة؛ 
بحثاً عن زاوية نظر مناسبة، تمكننا من إدراك تراتبية الأشياء٠ 
هل هناك ما هو أكثر أهمية يا صديق الفكر من الإستمرار بعزف سيمفونية الشغف كتعويذة ضد طغيان الخوف وغشية اليقين وفوضى المعنى ؟ 
لنرجع كما ولدتنا الحقيقة، ورغم تآكل أجسادنا بحمى الرقص على جمر الوقت ، موئل انسانية برتبة وعي يتولى تدفق مجرى التجربة.
ثم التوغل أكثر على طريق الإنتظام في نسقها المنضبط ؛ ليتسنى للقلب الارتداد نحو وضوح رؤية عاطفية تقبل القسمة على محتوى معقول، تمكننا من فهم سبب عدم اتفاق الواقع مع ذاته في معظم تحالفاته وتضاداته المعقدة.
لست من هواة المبالغة، لكني مقتنعة بأن مع كل اشكالية نواجهها ثمة حل سحري قابل للأخذ والعطاء، ولا يحتاج منّا إلا القليل من التركيز حتى يستقر في نفوسنا ويصبح تلقائياً ... 
أي الوصول إلى حالة من التناغم الوجداني لا يخلو من طفرة ترجع في أصلها إلى شعور ديناميكي ومغامر ... 
هو ذاته الشغف الذي تفتحت فيه براعم ضمائرنا، وأكملت مدارات مِغْزَل الأناة خيوط نسيج حنكتها وحكمتها .
ذاك المتميز بقدرته على انتزاع مرارة التجربة، وإزالة آثار العابرين من على أسوار الذاكرة .. 
وحده من يتفقد الأنين في ظلمة الألم الشاحبة، ويتحسس بذكاء عاطفي مدهش مكمن الوجع غامراً إياه بفيض شلال عاطفة نوراني يتسلسل غير آبه بضبابية الزمان وانتكاسات الجسد؛ ليعادل شحناته القابعة في زاوية أرهقها تهافت الحيرة والشك والإنتظار، ويبث في جفون القلق الرخاوة والخمول. 
هل أثار انتباهك من قبل أن من يمتلكون صخباً وجدانياً في دواخلهم اسمه الشغف يبقون على نية انسانيتهم أقوياء ! 
ربما لأن مرونة أمنياتهم كأحلامهم البكر لا تنفكُّ تترقب هطول غيمة مدرجة في سجلات العطاء السماوية. 
ولم تزل خصالهم المحمودة تطلب البركة من مواكب المواسم حيث يكون للإستدارة معنى.
وتصبح النجاة من الوقوع فريسة لحسرة أو شماتة أو شفقة جاهل خبراً مؤكداً... 
إن أعظم محاسن الشغف تتمثل في قدرته الخارقة على إكمال كل نقص فينا، وفي كل شيء حولنا بما استحقته حواسنا من تنويعات الحياة. 
وكيف له أن لا يكون كذلك، وهو رديف الإرتباك المحير الذي يعصف بتلقائية الوعي عند التقائها بالجمال ! 
وللشغف أحوالٌ كثيرة منها : 
عدم الاكتراث بسرد المجاملات في حفلات الرياء والكذب.. 
والنأي بالكرامة عن جميع المظاهر المنبعثة من تلوث النشاط الإنساني في زحمة الاستعراضات الملأى بمهارات التسلق والإسقاط والإنكار ! 
هناك حيث تتساوى قيمة الأقنعة التعبيرية مع مشقة آلف عام من التحليل والإشتقاق؛ لإقناعنا بأن فضاءات التعبير باتت خالية من أثير شغفها، وعاجزة عن مسايرة قوى التفكيك من حولنا. 
وأن معظم قضايانا - نحن أهل الشغف - ليست إلا محض محمولات ذاتية متغيرة لموضوع جامد جمود النهايات.. 
نعم أيها الصادق في صداقته، ها أنت الآن تعيد طرح أسئلتنا الكبيرة حول من قام بسكب ماء الفكر في قوالب جنائزية ضيقة ومن حرض الظروف على التمادي بدلالها علينا. 
وقد كُتِبَ أن يكون لنا في كل شبرٍ وثانية وكلمة حكاية بنكهة تثير في قلوبنا شهية الحياة والمعرفة. 
وحضور تفسير خال من ثقل الإصرار، والتكرار، وتعب الترصد.
بالنسبة لي، وعلى سبيل التعافي والشفاء من داء انقطاع الإستمرارية بين محطات الاستدلال المختلفة، سأكتفي بمداواة أوجاع تساؤلاتنا المذكورة أعلاه بالشغف. 
 فنحن في الماضي لم نعش هذا الإكتفاء كما يجب، حين كنا نتجاوز بلا تفكير خطورة التحليق بأجنحة نمطية في عوالم ترى في التناقض أقوى نقطة مرجعية لها.
لكنه الشغف يا صديق الفكر ... 
جبل الإلهام والإبداع واللهفة.
الواضح بشكل كامل كأصل الفعل. 
 فإذا تراءى لقلبك في الأفق وحدة مصير ... 
فاعلم أنه يهتم لأمرنا... 
ويحتوينا كما نحب فيه تفهمه لشكوى يقيننا... 
حتى نجد في عينيه المنتصرتين كلّ شيءٍ مفقود في هذا العالم ...

الاثنين، 21 مايو 2018

مدن الحزن والحب


 مدن الحزن والحب



لا شيء أقسى على مدن الحزن من يأسها، من اختناقها بنحيب الصمت وضيق السواد! أن تصير كجثث محنطةٍ ينقصها تهذيب حزنٍ يمسك القلب كي لا يقع في براثن الجمود، ويعيد تشكيل الدروب بعيداً عن أفكار الموت واليأس والدمار.
فاليأس هو وحش المدن وسلاح الموت الفتاك ، شكل من أشكال الإنتظار القبيح للنهاية.
والأكثر قبحا على الإطلاق هو حين تتجسد المأساة على شكل انسان جعل منه اليأس آلة جبانة لا تملك جرأة الإعتراف بسرّ ذلك الحزن الذي يحمل بين رؤوس أصابعه صكّ انعتاقه من قيود عبودية صفر المستحيل.
مدن اليأس وهم حزن تلفحه رياح الإهمال من كل تجاه.
صورة واقع كان اليأس له سمة سائدة ومرجعاً حاكماً لكنه لم يحبنا كما أدمناه حتى إذا ما انتهينا إلى تلك الحقيقة ألقيناه في جحيم خلافاتنا معتقدين أننا بذلك على الطريق الأحق والأجدر بمحاسبته و استعجال نهايته!
أما حال مدن اليأس فهو كحال بذور على الصخر دون ارتقاء ... اقتتال وتخبط في غياب مرعب للتنظيم والاتساق!
فالإختلاف وقاحة تستوجب العقوبة والخلاف منبع المعايير!
بينما ينفرد بأدوار البطولة المطلقة جهل جاحد بنعمة التساؤل تقابله في الخانة السلبية غباء سخرية تفتقر إلى أدنى درجات الملاحظة والذكاء .
لكن حتى لو استقرت كلماتنا على دلالات الحزن فيها ،واستكان الفكر دون اقتناع لنتائجه اللامنطقيه، وتلاشت أغنيات العمر النازفة في شرايين النسيان.
فهناك في المساحة الفاصلة بين مدن الحزن والحب برزخ تتأرجح كفتاه بين غيمتين، الأولى اسمها "العقل" والثانية تدعى "الحب" وهما دائما ما تتبادلان تحية الفكر المقدسة دونما اكتراث بخرافاتنا وأزماتنا الحوارية وضعف إلهامنا ونوع شحناتنا العاطفية !
فهما ثابتتين على ولائهما لحقيقة أن للحب أوطانه ومدنه المتحدّية كأنفاس تشهق وتزفر في محيط من النبواءات كأنها تبتكر اسماً فريداً لخلودنا أو تنشئ طريقا استراتيجياً يصعد بنا إلى ذروة الوجود!
ففي مدن الحب ليس عليك سوى أن تصنع لقلبك مقداراً لطيفاً شفافاً تطفو عليه ريشة اسطورية...وكلما نجحت في ذلك تأكدت بأن لا أحد يمكنه أن يسلبك حقك بأن تتعرف بحدسك على أسلوب التعبير الخام الذي تفيض به روح الكون من حولك...عندئذ ستعرف كيف تستلّ من بين ركامات السنين قيمة أيامك تماماً كما يُميّز الجيولوجيون معادن الصخور وكما يدرك خبير الأثار حين يسير على خطى حضارة عظيمة إلى أين تقوده موسيقى الريح...
مدن الحب عملاقة في شموخها وكبريائها تعرف كيف تنتقي أبطالها لتتكامل وتتوازن، ومتى تمد جسور القبول والتلاقي فوق وديان الرفض والتحدي .. مدن تكتب انبعاثها بأعمدة الماضي فتستحيل ميناءَ فرحٍ مستقبلي كامن في أعماق عقل يتوهجُ وعياً وأملاً وحياة...
مدن الحب مجبولة بدماء شهدائها، بحضور الأشياء اليومية والتفاصيل المستعادة، بتنهدات نسائها الجميلات بعد اثبات جدارتهن في تحضير فطور ساخن لنهار مثقل بالهموم، وبالغفوة المسروقة على راحة يد متعبة،وبحماسة صيف يركض نحو خيالات خريفية،وشتاء يطوي رحيله في أعماق الأرض،وبألوان أمواج ربيعية تتراخى بجاذبية على الجراح المفتوحة ...
في مدن الحب يغدو الحب شفافاً منزوع الدوافع ...وكل شيء مبدعُ وخلاق
ويكون الإقتران بذات حقيقية غارقة في عزلتها فالحب لأجلها فقط وليس لأمر أو شيءٍ عارض عليها . بينما يظهر ابداع الحب بكونه الفنُ الوحيد الذي يتميز بالإستقلالية إذ أنه لا ينتظر إقرار أو موافقة أحد مما يجعله غير قابل للتبدل والتغير والمساومة ولن يعوزه شيء ليستمر سوى تلاحم قلبين وتمازج روحين في وجود واحد‍ !
فكيف لي إذاً أن لا أحيا بعاطفةٍ تشعُّ حباً بكل لغة وأن لا أكتب بمدادها مثلاً الى الأوطان الساكنه فينا، تلك التي لا تفنى ولا تستبدل، لأنها من خصائص الروح!
وأن لا أقوم بتَطْيِيبُ صفاتها بشذى من اكتشف بحدسه النسبة الذهبية بين عقله وقلبه قبل ان تومض له على صفحة البصر أثناء انعكاسها على محَيَّاه في المرآه تلك الموجة الأنيقة ذات الرسم الأسطوري الجميل .
أو أن تتوقف بوصلتي الكونية عن الإبحار في الكتاب الذي أصبح بجرة قلم صديق الفكر وأيقونة خالدة في الوجدان، ذلك الكتاب الذي كلما أمعنت في قراءته أكثر انفتحت أبواب الحقيقة على الخيال كلوحة ذات أبعاد تجريدية.
حقاً كيف يمكنني أن أتوقف عن الحياة، والكتابة، والسعي بنور البصر والبصيرة في سبيل تفسير أهمية ثبات "نقطة الإرتكاز" عندما تطول المسافات وتتشعب وتتعقد الطرق. وقد علمت أن للكلمات في صدقها إرادةٌ لا تنثني، وفي اتحادها قوة حكمة قادرة على تلوين فراغ هذا العالم المضجر بألوان شمسية نتقله من انعكاسات الحياد الرمادية إلى انبعاث شموخ أزرق ومن أنانية النار إلى تضحية الغار.
فليكن لك سلامك وطمأنينتك يا حب ...يا أيها الخالد في ذاكرة الروح كالمعجزة. يا من كان غيابه إِرتِحَال غربة وإِغتِراب وحضوره أعظم انتصار ... ولا تقلق من خريف مفاجئ أو نتيجة قد تعكر مزاج القلب.
حتى وإن حرمتنا من "ثابت النسبة" باعتبارها ترفاً فكرياً تلك الضحالة التي تعج بها ثرثرة المتفذلكين وفضول الطامعين والمتربصين وكل من ظنّ أن سلامنا تعثر سذاجة وعزلة استسلام
فأنا منذ أطلّ وجهك الدافئ كشمس آيار من نافذة حريتي وأعلنت إيماني بتلك العينين...ووصفت بجمر اللغة معالم مدن الربيع حيث يكون لأبجديتي النصيب الأعظم من احتضان اللون والضوء لا أرى في باطن القلب إلا جذورك تُورِق في مساحاته حدائق ثقة بينما تُزهِر درجات صوت الحبيب السبعة نغماتها البلورية في ذاتي..
وقد عرفتُ، ودون استحضار حيلتنا القديمة بتقسيم الأرض والسماء إلى مربعات أنه في بواطن خرائط مدن الحب وثنايا أزمنتها لا شأن للأيام والصدف باجتماع القلوب وتوافقها وإلا لكان اليأس ثالثنا... والضياع قدرنا المحتوم ...لكنه الوطن الذي أبدع ديمومة التجانس والتناغم بيننا في جاذبية انصهار تتدفق في الشعور لتفعيل تمام المعنى كي يواكب جمالية الصورة الكاملة للحب عندما تتجلى في أوطان الحب أجمل صفات المثل الأعلى كمرآة نسترد فيها وجه المحبوب ونلامس من خلالها الأصل النقي لملامح أمّنا وأبينا وهي تحتضن أسرارنا وأرواحنا...

وقد كان أن تستقر قلوب المحبين وأفكارهم على هيئة مدنٍ وأوطان وفراديس سماوية حتى يسمو كل شيء على طبيعته في فضاء قيمته المطلقة وليظل هذا التكوين الشفاف للوطن هو الرمز الأعلى والأجمل والأكمل للحب!

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...