في التوازن بين الفكر والقيم
كان عامًا ثقيلًا، حافلاً بظروفه وتحدِّياته الَّتي استنفذت مني الكثير من الجهد والصَّبر... وها هو اليوم يستقر أخيرًا على شاطئ الذاكرة مزيجًا استثنائيًّا من الأفكار والتَّجارب الَّتي شكَّلتها بتناغم عجيب ومدهش، تلك الثُّنائيَّات الَّتي بدت وكأنَّها استأثرت بمسارات العام وتفاصيله... فما أصعب أن يتأرجح القلب بين الأمل واليأس... الفرح والحزن... القوَّة والضَّعف!.
كلُّ يتوالد من الآخر، وكأنَّها حلقات متوالية تغذِّي الوعي، وتهب المعنى شكله المرئيَّ، فيزداد وضوحًا في عمقه المقنَّع...
وبالتالي، لم يكن حالي هذا انقطاعًا أو توقُّفًا عن التَّدوين، بل استغراقًا صامتًا في القيم الأخلاقيَّة الأصيلة التي طالما ألهمتني كلَّما أردت صقل مكنونات الفكر من خلال الكتابة. والتي أصبحت تحدِّيًا ذهنيًّا مرهقًا أمام عالم يعيد إنتاج صراعاته الفكرية في كلِّ شيء تقريبًا...
وبكل تأكيد.. لا أريد أن يتم اختزالُ أفكاري في ردود فعلٍ فورية أو أن تتحول إلى مجرد استجابةٍ سريعةٍ لواجهة صفحتي بينما يطرحُ مثلًا فيس بوك سؤاله المعتاد "بِمَ تُفكر" والذي يلقيه علينا وكأنه استفسار عابر يمكن استهلاكه بسرعة ودون عناء، مع أن الإجابة عليه وسط هذه الأجواء المثقلة بالعواطف والمعلومات لا تبدو بتلك البساطة التي يظنها البعض...خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا تعرف عقولهم الهدوء، ممن يؤمنون بإنسانيتهم وحدسهم إلى أقصى حدود الوعي..
في المقابل تظل الحاجة دائمةً إلى سؤالٍ يتجاوز بنا حدود اللحظة الانفعالية العابرة ويأخذنا إلى طبيعة التفكير العقلاني الذي يستند إلى مبدأ التدرج بين الأقطاب.
سؤالٌ يومض في مخيلتنا كالبرق، مُستتبعًا أسئلة أخرى تضاهيه في الأهمية، ولا تشترط أن تأتي إجاباتها في سياقات مباشرة وحاسمة تتماهى مع سمة هذا الوقت الذي يسيطر فيه إيقاع العاجل والمستجد.
وما أجمل أن نمعن النظر في تساؤلٍ ينبع من أعماق الفكر!
منغمسًا في اهتمامات زمانه... يبحث عن إجابةٍ ترضي أعماقنا التي تتطلع إلى تفسيراتٍ وحلولٍ لا تحملُ في طياتها مأزق هذا العصر المتمثل في التوجّه المربك نحو سرعة التهميش والتبسيط الخانق للحقائق.
وبالطبع... هناك فرق كبير بين تبسيطها لتيسير الفهم، والاختزال المؤدي إلى تشويهها وتحريفها.
وكم هو ضروري بين الحين والأخر أن نخوض رحلة بحثٍ ذاتي تدفعنا إلى مراجعة محتوى تفكيرنا، لتمنحنا القدرة على إدارته بوعي أعمق وأكثر نضجًا.
ولأنه لا توجد إجابات جاهزة مناسبة للجميع وتفسيرات تصلح لكل زمان ومكان، هذا عدا اختلاف منطلقات التفكير من شخص لآخر ..
فإن الأمر بات متعلقًا بضمائرنا، مما يدعونا بالتالي إلى وقْفَاتِ تأمل لأصدق تصوراتنا، تلك التي تنبثقُ من جوهر أرواحنا وقيمنا، ومقارنتها بما يرتسم اليوم على جدران "كهوفنا الرَّقميَّة" حيث نرى بعين النَقْدْ أيَّ انحرافٍ عن جوهرها ونكشف حقيقة كل دلالةٍ لم تحسِن تمثيلَ قيمتها..
نعم... هي مقارنةٌ شجاعةٌ مشفوعةٌ بتساؤلاتنا الفلسفية، ولا شك ان ما نسميه اليوم Filter Bubbles فقاعات التصفية بمحتواها المحدود المبني على تفضيلاتنا وسجل سلوكياتنا على الشبكة العنكبوتية يعيد إلى أذهاننا محاولات الفلاسفة للتخلص من التحيزات والانطباعات المسبقة.
فنجد مثلًا مفهوم الشك المنهجي الذي صاغه ديكارت(1) بهدف الوصول إلى اليقين العقلي المطلق، أيضًا في نفس السياق منهج فرانسيس بيكون(2) الاستقرائي القائم على الحسّ والتجربة.
ومع اختلاف المناهج، إلا ان كلاهما كان يدرك ضرورة التوجه إلى جوهر الأمور بعيدًا عن التحيزات والانطباعات المسبقة.
وأن قراءة الواقع بشكلٍ علمي وسليم، والتفريق بين ما هو حقيقي وزائف، يعتمد على نقاء الفكر واستقلاله.
وهو ما تخلو منه فقاعات التصفية، وانتقائية الخوارزميات حيث تقتصر المعلومات المعروضة على ما يدعم توجهاتنا وآرائنا المسبقة بينما يتم استبعاد الأفكار التي تخالفها أو تُناقضها...
لكن في ظلّ هذا الكمِّ الهائل والمتشابك من المعلومات والمتغيرات اليومية، وحتى مع المنهجية المُحْكَمة في البحث، لا مفرَّ من مواجهة معضلة شديدة الصعوبة.
وهي أنّه كلَّما تعمقنا أكثر بدا الأمر أشدَّ غموضًا وتعقيدًا.
من هنا... ذهب بعض المفكرين إلى وصف عصرنا هذا بأزمته، معلنين أنه زمن ما بعد الحقيقة.
حيث تتحكم العاطفة والمعتقدات الشخصية بتشكيل الرأي. وتتخذ النسبية موقع الصدارة في المشهد متجاوزة ما كان سائدًا سابقًا من معايير وحقائق موضوعية. فيعلو صوت الضجيج المعرفي بتأثير هذا الزخم الذي فاقمته التكنولوجيا ووسائط نقل المعلومات المتطورة حدّ الذهول!.
وربما كان المكوث في مستوى التعجب والاستغراب هو ألطف ما يمكن للنفس أن تَبْلُغَه...
وهذا إذا كنتَ من المحظوظين الذين تمكنوا من التفريق بين الحقيقة والوهم، في عالم أصبح فيه التمييز بينهما مُهمةً مرهقة وعسيرة.
تمامًا كما يثبت لنا الكهف في رمزيته الأفلاطونية...
فهو ليس مجرد حديثٍ عن "جهل الخداع الحسيّ" فقط، بل تمثيلًا صريحًا لأوهام كلِّ زمانٍ تحولت فيه الظلال إلى حقائق زائفة، واستحالت الآراء المغلوطة إلى قناعات صُمِّمت لتُبقيَ كلّ فرد محاصرًا في دائرته الفكرية.
وأتوقف هنا للتأمل في أمثولة الكهف الشهيرة(3)، تحديدًا عند مشهدٍ غاية في الإنسانية، والذي يعبِّر عن حالة الانبهار والفرح التي غمرت أحد ساكني الكهف بعد تحريره من أغلال الظلمة وخروجه إلى رحاب النور ليرى الأشكال للمرة الأولى كما هي على حقيقتها..
حيث يطرح فيه أفلاطون بأسلوبه الجميل سؤاله المتضمن في طياته إجابةً تنفي معقوليةَ أن يعود هذا الشخص إلى أوهام التفكير بمنطق الظلال الثنائي المُفرِّغ من عمقه؛ بعد أن رأى وعاين وجادل في حقائق الأشياء وجوهرها في عالم النور، ذاك الذي تبدو فيه الأشكال متعددة الأبعاد، تتطلب عدّة مستويات من الوعي ليتحقق فهم غناها واستيعاب تفاصيلها بشكلٍ كامل، بينما لا تعدو ظلال الكهف المسطحة إلا نسخًا مشوَّهة وناقصة للواقع...
وهذا الأمر، حسب أفلاطون، يتطلب تعليمًا مستمرًا يضيءُ أفق الفكر، وتدريبًا دؤوبًا يعزز قدرة العقل ومرونته على تقبّل المعارف الجديدة التي تهدف إلى الارتقاء بالنفس، وتحقيق الانسجام مع الحقائق العليا في عالم الأفكار والمعاني الأصلية ..
من الواضح إذًا، أن عملية التفكير ليست استدعاءً لحمولات المعرفة المكدسّة لدينا، بل هي منظورُ للإدراك والفهم.
هي عمليه بناء ثقافة تفاعلية لا تستقيم ولا تزدهر إلا إذا تأسست على المبادئ الإنسانية النبيلة التي تحظى بالاحترام، وتمنح الحياة حصانةً حقيقية ضد دوامات العبث التي تستنزف الروح وتبدد الأمل.
وكما أن الكتابة وسيلةُ لتسجيل كل شعور، وتأريخُ لكلّ فكرةٍ نيّرةٍ أضاءت دروب النفس وجعلت مجاهلها تنعم بالأنس والانسجام.
فهي أيضًا اختبارُ لمرونة الفكر وانعكاسُ عملي لقدرتنا على التعامل مع مصاعب الحياة ومتغيراتها..
وكم هو جدير بكل فكرٍ مستقل أن يسعى إلى اكتشاف ما يختبئ في ضبابية هذا الدَّفق المعرفي الهائل من خلال التكيف مع زوايا النظر المتعددة.
وإعادة تقويم الأفكار ونقدها؛ لتتبع الحقائق بشكل أكثر وضوحًا ودقة، مما يتيح لنا وضع المفاهيم على تنوعها وتعددها في سياقاتها الصحيحة.
ويحمينا بالتالي من الوقوع في فخ التعصب ويجنبنا أيضًا فوضى النسبية المطلقة...
فالمرونة العقلية ليست مفهومًا طوباويًا بل هي حلٌ واقعي وفعّال نبدد من خلاله ظلال أوهامنا، وهي نمط من الحوار الواعي بين ما مضى وما هو آت، وفن التوازن بين ما تَجَذَّرَ فينا من القيم، ومستجدات عالمنا المتسارع. وفي أفقها الرحب تكمن الكيفية التي تحمي وجودنا من التقهقر إلى كلّ ما نبذته أزمنة الوعي، واستنكرته الشَّرائع، وحذَّرَ منه حكماء الأرض.
فإذا كان مصير أفكارنا بين أيدينا؛ فلنستمر...
_________________________
1.ديكارت: التأملات في الفلسفة الأولى 1641
2. فرانسيس بيكون: الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة 1620
3. أفلاطون: (الدولة Πολιτεία الكتاب السابع 380 ق.م)
كلمات رائعه واحساس مرهف
ردحذف