السبت، 5 نوفمبر 2016

قراءات في الذات الإنسانية: الضمير


 
هو جبل شاهق وسط جزيرة معزولة في أعماق النفس، راسخٌ في تربتها الملأى بالمعاني كالحقيقة، 
تحيطه من جميع الجهات أفكار ورؤى وتصورات يعلن بها وجوده الفعلي في وعينا بصيغة أحكام وقواعد ومبادئ تستلهم مضمونها من علو يرانا ولا نراه، يدركنا ولا ندركه.
 يعلو صوته حيناً وينخفض حيناً، 
لكن ما يميزه أنه يعرف جيداً كيف يستجيب لنداء رغباتنا بل كثيراً ما يتجاهلها حتى يتسنى له فرض أحكامه ورؤاه على ارادتنا دون أن يستثني تلك التي كنا نعتقد بأننا قادرون على اخفائها. 
وكأن كل ما يقوله لنا لا يعنى إلا شيئاً واحداً، شيئاً محفوراً في وجدان كل واحد منا،
 وهو بلا شك في غاية الأهمية والإنسانية، 
يناظر وقفة الإنسان الأولى على أديم هذه الأرض وادراكه لأول مرة امتداد بصيرته إلى ما وراء الأفق...
 إلى نقطة تحرره من عبثية الفكرة والموقف .. شيءٌ يجعلنا على قيد الإنتماء لنوع حي يعقل، يعي، ويشعر . 
ويدفعنا إلى تلك النبضات الواعية القادمة من أعماقنا، إلى الإستماع لها، والإحتكام إليها، والإحتماء بالود الذي تخاطبنا به ليل نهار... 
عن أي أمرٍ أو شيءٍ أتحدث ؟؟
 عن الضمير نعم.
 أتحدث عن إحساس "الأنا" بصوابها وخطئها، عن الصوت الداخلي الغامض الذي لا يهدأ، عن صوت النور الداخلي. 
فما هو الضمير ؟
 بدايةً يمكن تعريف الضمير بأنه استعداد نفسي داخلي لإدراك الصواب والخطأ، وسمة أصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية. وبالإعتماد على المعنى الذي تتضمنه كلمة الضمير اليونانية συνείδησης أو syneídisi فالضمير موضوعاً هو الوعي أو الإدراك. 
ذاتياً: هو ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺬات ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺬات وإصدار أحكام تقويمية على أفعالها ..
 أما الضمير وفق المنظور الديني هو اثبات الكرامة الإنسانية ، ونور وصايا الله في نفس المؤمن، والذي يقودها إلى التقوى في قول وفعل الحق والخير والتزام الفضيلة مما يجعل نسيج النفس مرناً ومتماسكاً وخالداً في نعيم لا ينتهي.. 
هل الضمير ولادي أم مكتسب؟ 
لو افترضنا أن الضمير أمرٌ فطري، فهذا يعني أن الضمير قوة أخلاقية ولادية تولد مع الإنسان بحيث تكون النفس مزودة بقدرة التمييز بين الصواب والخطأ وامكانية ضبط الإرادة لتجنب الخطأ. 
يتفق ذلك إلى حد ما مع نتائج الأبحاث والدراسات التى قام بها الباحثون في هذا المجال على أخلاق الأطفال الرضع بهدف اثبات مإ إذا كانوا يمتلكون معرفة تمكنهم من التمييز بين الحق والباطل، وذلك من خلال مراقبة نظراتهم وتصرفاتهم وكيفية تفاعلهم مع الخيارات الصحيحة والخاطئة التي تطرحها الإختبارات.
 لكن، وعلى الرغم من النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسات حيث أظهرت بالفعل وجود الحس الأخلاقي الشامل لدى الأطفال إلا أنها حتى اللحظة لم تحسم الجدل حول إن كانت تصرفات الأطفال نابعة من التعاطف أو من معرفة الخير والشر. 
ذلك أن دور الضمير حسب مفهوم علم السلوك وعلم النفس التطوري هو تعزيز الإيثار المتبادل بين الأنا والآخر.
 أي عمل الخير مقابل المعاملة بالمثل وصولاً إلى أعلى درجات الرقي والوعي الضميري وهي التضحية والإيثار الحقيقي المحايد أي عمل الخير دون شرط أو انتظار مقابل.
 ولو قلنا أن الضمير عاطفة متعقلة ،
 فهذا يعني أن المعتقد الداخلي أي الضمير مكتسب، أي أنه يتشكل ويتطور خلال مراحل حياة الإنسان، ويتم صقله بالتربية وبواسطة التجارب التي يخوضها الفرد مع محيطه. 
هذا بالإضافة إلى أن رقابة المجتمع بكل ما تفرضه من مفاهيم وعادات وقيم تؤثر بشكل كبير في الطريقة التي يصوغ بها الضمير أحكامه . 
والرأي الأخير هو الرأي الذي تميل إليه الفلسفة وعلم النفس المعاصرين، فالضمير صفة مكتسبة على اعتبار أن الضمير الفردي لا يمكن أن يصوغ أحكامه إلا بناءً على وعي الإنسان بمسؤولياته ودوره بالمجتمع وتربيته وخبراته وظروف حياته . 
لكن، وسؤال لمع في ذهني الآن ألا وهو كيف يخالف الضمير الفردي الضمير الجمعي في كثير من الأحيان بل وتكون أحكام الضمير الفردي أكثر صوابا ومنطقية وابداعاً ؟ 
والأمر الذي لا يمكن تجاهله في هذا الموقف هو كيف يمكن للضمير أن يستنبط حكما بواسطة قيم جمالية نسبية، ومن خلال شعور الفرد بلذة السلام الداخلي والراحة والسكينة مع نفسه أثناء اتخاذه قرارا معينا أو قيامه بتصرف ما ، وبغض النظر عن رأي مجتمعه وحتى أقرب المقربين له.
 لتثبت الأيام فيما بعد صواب وصحة حكم الضمير الفردي وتفوقه. 
غير أن المفهوم السائد الذي يرى الضمير أداة تأنيب لا تمرد تجعل الضمير الجمعي في الواقع هو من ينتصر في النهاية ... 
ويبقى الفرد في مساحة الخيال الخاصة به، ينشأ عليها عالمه المثالي ونماذجه الروحيه وادراكاته الخاصة للقيم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. 
 هل يمكننا القول إذاً بأن الضمير مصدر من مصادر المعرفة ؟ 
نعم، في حال كان الضمير حياً نابضاً بالحركة كشمس تحتضن حدثاً ديناميكياً و تصالحياً بين العقول والقلوب، وقمراً مكتملاً يسهر على حفظ الكرامات والحقوق الإنسانية، 
فالضمير اليقظ هو الضمير الذي لا تتوقف محاولاته في مجالات المعرفة الذاتية والإصلاح الشخصي من خلال تحفيزه للفرد على القيام بعمل الخير، وتوجيه النقد الذي قد يكون لاذعاً وقاسياً في حال ناقض الإنسان ما يحمله من مبادئ او ارتكب خطأ ما .. 
وهنا قلق يخطر في البال متنكراً بهيئة سؤال ومضمونه هل يموت الضمير ؟ 
نعلم بأن النفس البشرية مزيج من الخير والشر وما دام الخير والكمال المطلقين أمر غير متاح بشرياً ونفس القاعدة تنطبق على الشر المطلق ، فذلك يعني أن بذرة الخير في النفس الإنسانية لا تموت والصحيح أن إهمالها وتجاهلها هو ما يبقيها حبيسة الأعماق المظلمة فيختنق صوتها ويضيع وسط ضوضاء أعباء الحياة ومشاغل النفس وهمومها وما أكثرها في زمن مادي متسارع... 
أما الضمير كأداة معرفة وتوجيه وتمييز بين الحق والباطل نعم يموت بموت انسانية صاحبه . 
والمعنى الذي أقصده هنا هو حين يعتبر الإنسان نفسه أو غيره كائناً ملائكياً منزهاً عن الخطأ، أو شيطاناً لا يستحق إلا اللعنة.. 
يموت الضمير بغرور الإنسان وأنانيته وجهله وتعصبه لقناعات تحرمه متعة تجديد وتحريك الراكد فيه وتسلبه حرية وزن الأمور وتقييمها أو بسلوك أعمى متسرع يقوده إلى هاوية الفقد والخسارة .. 
نعم الضمير كصاحبه يذبل ويموت قهراً إذا تم التعامل معه بسطحية ولامبالاة وتذوب روحه في ماء النسيان كمداً جَرَّاء الإقصاء والتهميش.. 
والسؤال الذي يفرض نفسه لفهم أكثر وضوحاً ودقّة وهو: 
هل هناك ضمير عدو وضمير صديق ؟ 
بمعنى آخر هل يمكن أن ينقلب الضمير على صاحبه؟ 
بعيداً عن كل ما هو ذاتي وفي محاولة للإجابة على السؤال المطروح وايجاد مفهوم أكثر توازناً ومعقولية للضمير كان لا بد من المرور مع مراعاة الإختصار الشديد على أراء من أشبعوا هذا المصطلح دراسة وتحليلا ونقداً وعلى رأسهم فريدريك نيتشه ( 1844 - 1900)م فيلسوف المطرقة والإنسان المتفوق. 
يعتقد نيتشة ان الضمير قد ينحرف عن مساره حين يبالغ في توجيه اللوم والإتهام والنقد لداخل الذات بدلا من محاسبة الأطراف الخارجية التي ارتكبت الخطا. والسبب الذي أدّى إلى ذلك برأيه يكمن في وجود القيود الإجتماعية والدينية التي أجبرت الفرد على تجنب الأفعال اﻟﻌﺪواﻧﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ التي هي من صميم تكوين الجنس البشري وحرمان الإنسان من متعة اﻟﺘﻠﺬذ ﺑﺎﻻﻧﺘﻘﺎم مما دفعه إلى أن يقوم بتصريف شحنات العنف إلى الداخل. 
كما أن تأنيب الضمير بالنسبة لنيتشه هو شيء غير جدير بالتقدير. 
إذ لا يجب أن يتنكر الإنسان لعمل بعد القيام به، بل عليه أن يقبل بالنهايات السيئة لعمله وعدم محاولة البحث عن أي قيمة في الرجوع عنه. 
ذلك أن الإنسان حينها يفقد القدرة على رؤية تلك النتائج بشكل صحيح، بل إن عملاً أخطأ الهدف في رأيه يستحق التقدير أكثر .
 هنا الضمير حسب وصف نيتشه بات مشكلة حقيقية وليس حلاً، وبتعبير أكثر صراحة أصبح الضمير أداة تعذيب ومصدر قلق للذات، وهو يرى أيضاً أن خصائص الضمير وهي اللوم المستمر، والنقد، وعدم الرضى، كفيله بأن تجعل أصحاب الضمائر الحية يعانون بشكل دائم من حالة شعورية مضطربة وغير مستقرة .
 لكن، في المقابل فإن رضى الضمير عن أفعال صاحبه يعكس وجود مشكلة أخلاقية. والآن هل نجح نيتشة فعلا في وضع الضمير في مأزق حقيقي؟؟ 
برأيي أن كل هذا الاضطراب المنسوب للضمير ليس إلا نتيجة ﻹدراك أﺧﻼﻗﻲ ﺳﻄﺤﻲ وﻏير ﻣﻜﺘﻤﻞ لمفهوم الضمير وطبيعة الشخصية الإنسانية ومكوناتها. 
فالمشكلة ليست في الألم الذي يسببه الضمير لصاحبه عندما يرتكب خطأ ما ، بل في عدم إدراك وفهم الأسباب الكامنة وراء ذلك الألم. وبلا شك أن التأديب الذي يقوم به الضمير يدفع صاحبه إلى تصحيح سلوكه ومواجهة أخطائه ومعالجتها بأقل الخسائر. 
وهو ما يمكن اعتباره فرصه ذهبية ليصبح الإنسان أفضل.
 كما أن تضخيم الأخطاء، واعطائها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي يمكن اعتباره مسببا رئيسياً في كل ما يعانيه أصحاب الضمائر من ضيق وآلام. 
والمقصود أنه عندما يطغى صوت الخطأ على صوت الإصلاح أو الضمير، تبقى النفس على حالها في حالة ضياع وحيرة، فلا هي قادرة على معالجة الخطأ من ناحية، ومن ناحية ثانية باتت عاجزة عن التفاهم مع صوتها الداخلي الذي لا يتوقف عن تأنيبها . 
أعلم أن فلسفة نيتشه كانت وليدة تجاربه وملاحظاته وتأملاته في الطبيعة حيث استمد منها حقائقه وتفسيراته للظواهر الإنسانية التي كان يبحث فيها بآليات فيزولوجية، انتقائية، وناقدة. 
لكن لا بدّ لي من القول بأن أراءه هنا لم تكن إلا ردود أفعال على كل سلطة فرضها زمانه عليه، سواء كانت دينية أم مجتمعية، وبكل تأكيد لم يكن عبثاً ذلك المزج بين تسلط أصواتها وصوت الضمير الداخلي حين نراه يصرح مثلاً بأنه في عاداته السلوكيه وأفكاره دائم التطلع إلى كل ممنوع وكيف لا يكون كذلك وهو كما يقول تلميذ لــ"ديونيسوس" إله الخمر في الميثيولوجيا الإغريقية، وملهم طقوس الجنون والابتهاج والنشوة..
وأنه يمتلك يقيناً غريزياً يمكنه من معرفة ما هو صحيح وضروري بمعنى أنه إنسان معافى بجوهره الغريزي . 
نعم، لا شكّ في أن صوت مطرقة أفكار نيتشة الصريحة جعلني أتفهم جيداً موقفه الرافض لجمود الفكر وإصرار الناس على جعل بعض الأفكار والمعتقدات أصناماً يجب تقديسها. 
بالتالي فأنا لا أملك أمام جرأته وتحليقه في فضاءات جدلية ،صادمة ومتناقضة إلا الإعتراف بتميزه سواء اتفقت معه أم لا. 
لكن هناك برودة في فلسفته حول الضمير تعادل برودة الجليد حيث تخلو بيئتها من وجود الكثير من المعاني التي تعطي لحياة قائمة أساساً على التعاطف والتضحية والتنازلات قيمة ، وللنفس الإنسانية التي تميل إلى الإجتماع والتعاون والصداقة معنى وهدف. 
نيتشة، في كتابه "Ecce Homo: هذا هو الإنسان" وإن كان يعاني من بعض الحنين لعصر كانت فيه السلوكيات العنيفة شكلاً من أشكال الشجاعة والبطولة ومصدر قوة وفخر. 
وعلى الرغم من سخطه وهجومه على "عالم المثل" الذي جعل الناس حسب رأيه ينفصلون عن واقعهم إلا أنه يقر بأن لا مفر من الاعتراف بدور القانون الأخلاقي في توجيه البشرية نحو إيجاد حلول مقبولة لأزماتها. ونراه يطالب بضمير مثالي يكون دافعاً للحركة والتجديد وتحليل الأفكار وإعادة صياغتها بعيداً عن نزعة العقاب الذاتي القائمة على تفسيرات أخلاقية قبلية.. ولا زالت فصول القصة النيتشوية حول الضمير مستمرة لكن مع مؤسس علم التحليل النفسي "سيجموند فرويد" وتحديداً مع كتابه "قلق في الحضارة" الذي يصف فيه فرويد سلوك الضمير أو الأنا العليا تجاه الأنا وهي شخصية الفرد بسلوك الطاغية! 
إذ يرى فرويد أنه كلما تحكم الإنسان في عدوانيته، اشتدت الميول العدوانية للأنا العليا.. 
أما الشعور بالذنب فهو التعبير عن صراع الإزدواجية بين الحب وغريزة الموت والدمار. 
فالضمير حسب النظرية البنيوية لفرويد هو مجموعة الأوامر والتحذيرات التي ترسلها "الأنا العليا" حيث القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية والمجتمعية إلى "الأنا"،  وعلى ضوء ذلك فإن نشوء الضمير كان نتيجة العزوف عن الدوافع الغريزية منذ فرضت على البشر مهمة التعايش المشترك. 
وبما أن الحضارة تهدف إلى توحيد البشر في كتلة واحدة فلن يتأتى لها ذلك إلا بتعزيزها المتواصل للشعور بالذنب لدى الأفراد. 
ومن حيث أن الضمير هو وظيفة من وظائف الأنا العليا فإن المجتمع بوسعه تطوير "أنا عليا" جماعية يمكن استخدامها لتحقيق أهدافه الثقافية. 
والسؤال الذي علينا مواجهته الآن هو كيف يمكن للنفس وهي موطن التوازن والاعتدال والتوافق بين الرغبات والغرائز ومتطلبات الحضارة إعادة أجواء الهدوء والسلام إليها من خلال الضمير الفردي والجمعي؟ 
أولا: نعلم بأننا اجتماعيون بطبيعتنا ولا نستطيع فهم أنفسنا في كثير من الأحيان إلا من خلال الآخرين لكن هناك حقيقة تفرض نفسها على كل شيء ألا وهي:
 أن لا أحد كامل رغم وجود نزعة الكمال لدينا أو الإكتمال، والتي تدفعنا إلى أن نكون مقبولين اجتماعياً، ومنظمين، وقادرين على ترتيب أولوياتنا بشكل صحيح دون أن نمس أنفسنا والأخرين بأذى أو ظلم أو ضرر.
 ثانياً : إن الضمير الحي أو اليقظ صورة من صور التعاطف والتعاون بين البشر وهو ذو رؤية كونية، مستقلة وقادرة على فهم أكثر قوانين الكون عمقاً وتداخلاً واستيعاب مظاهر الإختلاف فيه والتكيف معه . 
ومن هنا يمكن القول بأن أحد أهم خصائص الضمير الحي السليم هي التحرر من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيما هو يحاول قدر الإمكان خلق حالة من الثبات والتوازن بتجنب حسم أموره بمعيار النفس المتصارعة مع رغباتها والمتذبذبة بين الحق والباطل. 
ثالثاً: صحيح أن اﻟﻀﻤير مركزه الذات إلا أنه يشترك مع الأخرين في صياغة الحياة العقلية الكلية للمجتمع الذي هو جزء منه، 
لذا كان لا بدّ من إﻳﺠﺎد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻮازﻧﺎت ﺑين القناعات الشخصية والمصلحة العامة . 
ويتحقق هذا التوازن من خلال احترام وحماية ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻀﻤير أي ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻜﺮ واﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺪاﺧلي للإنسان. 
حتى نصل بسلام وأمان إلى تحقيق المعرفة المشتركة عن طريق اﻟﻘﺎﻧﻮن أو اﻟﻀﻤير اﻟﻌﺎم. الذي ينظم الأفعال، ويتم الإحتكام إليه وقت الخلاف. 
رابعاً: إن الضمير ليس صوت الأب ولا المجتمع ولا السلطة أياًّ كانت.
الضمير هو صوت الهدف النبيل الذي خلقنا الله من أجل تحقيقه . 
هو صوت الذات الواعية بكرامتها، 
وبأنها تستحق أن تكون أفضل . 
صوت نضوج النفس.. 
هو صوت احساسنا بالآخر ... 
صوت خلاصة علمنا ومعرفتنا وتجاربنا. خامساً : إن بين المثالية والواقعية، والوسيلة والغاية، ثمة كلمة تجمع ولا تفرق، ألا وهي الضمير.
 قد يراه البعض صورة من صور الإلهام والحدس بينما يريد البعض الآخر من الضمير أن يكون تجسيداً لخبراته وتجاربه اليومية ليس في ذلك عند التطبيق تناقض أو سبب خلاف فالمهم هو أن نعرف أن الأساس الذي بني عليه كلا المفهومين كان نتاج وعي الإنسان بذاته وكونهما يسعيان إلى الخير فهما خير وارتقاء. 
 لكن علينا أن نتذكر دائماً ما عايشناه وتعلمناه من أزمات الضمير التي باتت قرينة واقعنا أن لا شيء أكثر خطراً على صحة ضمائرنا من الجهل والحقد. 
ولن نصل إلى ضمائر يقظة تنعم بالخير والسلام إلا باتقان فن الحب ولغة الحوار. ويبقى الإحترام...
 احترام النفس وكرامتها أولاً سلاح الحضارة الذي لا يهزم أبداً. 
وما من صوت يستحق أن نصغي إليه باحترام استثنائي أكثر من صوت بوصلتنا الداخلية صوت الضمير .

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟


ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟
لو قلت أن البساطة التى تعني العفوية والوضوح وسلامة النية والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتمويه و التكلف والتصنع هي سر من أسرار العبقرية فالاغلب أني على صواب.
ذلك أن الإنسان الذي يدرك البساطة التي كانت عليها الأشياء في بداياتها يستطيع قراءة النهايات وسيكون حينها قادراً على حل العقدة دون أن يقطعها ...
الإنسان البسيط بفطرته النقية يستسهل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ولا يتعكر مزاجه البسيط وذائقته الشفافة من غليان علاقاتها المتشابكة حوله وهو بالتالي لن يعاني خللاً في ادراكها ولا ارتباكاً في ادارة معطياتها ...
البساطة هي القاعدة الأولى والأهم من قواعد اللياقة العقلية والنفسية في الحياة تبدأ من الاكتشاف والخلق والإبداع إلى تحديد نمط العيش وصولا إلى طرق نقل الأفكار والتعاطي معها والتأقلم مع نتائجها...
كل فكرة تحلت بالبساطة أثبتت نفسها وصمدت لقربها من أصل تفكيرنا ومعتقداتنا وأحلامنا وحتى خيالاتنا ....
البساطة تحمينا من أن نكون تحت رحمة ظروف قد تدفعنا إلى أوهام التناقضات عندما نكون بعيدين كل البعد عن حقيقة ما نحمله في أعماقنا رغم زعمنا بأن الأولوية دائما هي لتاكيداتنا وحساباتنا التي قد تكون في كثير من الأحيان مسيئة وجارحة لصفاء سلامنا الداخلي ..
البساطة صفة فريدة بمنطقها الذي يدخل القلب والعقل بلا استئذان فهي ثمرة الوعي التام المكتمل حيث تعبر عن نفسها بالحفاظ على مسافات ثابتة حيادية في صراع الأضداد لتعطي للعلاقات بين الاختلافات أجواء تنافسية جاذبة ...
وهي رغم تنوع أدوارها إلا أنها دائما ما تبدع في تفسير وتنظيم وترتيب كل شيء بتجرد ونزاهة...
في القانون هي النظام ...
في السياسة هي قرار الإرادة الحرة الواعية ...
في العلوم هي المبدأ الذي تستند علي حكمته وغايته النبيلة النظرية...
في الفنون هي الإبداع ...
في السلوك هي الإعتدال ... في القول هي الصدق ...
في الحب هي حضارة قلب ولغة شعور....
البساطة ببساطة هي موسيقى الفكر الأنيق المهذب المتعلم... وعنوان الوجود المتحضر...
ملاحظة :
إذا لم تكن من أنصار البساطة أو كنت ممن يرون في التعقيد والتجارة بالمظاهر قوة ونوعا من أنواع الذكاء والدهاء فأرجو أن يساعدك ذكاؤك في هذا الشأن فلا تكن كقاطع طريق على دروبها وبالتالي عدم استغلالها ومحاولة انتزاعها او اجتثاثها حسب اعتقادك من نفوس الآخرين..
فالبقاء يا أيها الناس للأجمل أي للأكثر بساطة ..

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

الأمل...فريدريش فون شيلر




يتكلم الناس ويحلمون كثيراً بأيام أفضل في المستقبل ..

حتى وهم يرون الهدف الذهبي يتجاوزهم مبتعداً 
قد يصبح العالم هزيلاً وهرماً لكنه سيعود مرة اخرى نضراً فتياً 
لذلك يتمنى الانسان الأفضل دائماً..

وفي أعماقه أمل يقوده إلى الحياة..
أملُ... يفتن عقل الفتى المرح حين يحلق حوله بأجنحته السحرية ...
ولا يفنى مع الشيخ الذى أنهى مسيرته الشاقة في القبر فهو لا زال هناك يغرس نفسه وينبت كالأمل ...
الأمل ليس كذبة أو وهماً مخادعاً في أدمغة الحمقى...
هو صوتٌ قوي يعلن في القلب أننا ولدنا لنكون أفضل ...
وما ينطق به الصوت الداخلي في الأعماق لا تُضله النفس المسكونة بالأمل..
___________
فريدريش فون شيلر شاعر وكاتب كلاسيكي ألماني (1759-18055)

الأحد، 31 يوليو 2016

تنــاقضــات...

هو حي...
بطريقة ما يشعر بأنه حيّ، و لا زال يلفت النظر إليه كل يوم بغيبوبة مفتعلة ينهي بها تأرجح صراعه الطفولي مع أولئك الطامحين مثله في الحصول على حلمٍ ترتديه وسائدهم الناعمة خلال الليل ...
وكم يحب التعثر بالصدى والمسافات، وأن يتعرض ككل كائن يتفاعل لإغواء السراب، ويسعده كثيراً أن يكون انعكاساً بشرياً للون الغالب في خرائط الجغرافيا!
حي هو ... وبنتيجة حيادية مصقولة ببعض الحظ يؤكد لنفسه ذلك... إذ أنه لم يكن غنيمة حرب عبثية ، ولا فريسة لأوامر ذائقة قد تقف بينه وبين حريته فأصبحت تلك الحياة قيمته التي ولدت من جديد ...
حي هو ...عمليّ وعصريّ ... لم ينتظر كرم البخلاء ورعشة أيديهم حين تتشابك أمامه بحرص كما تفعل تجارب الأيام في مواسم القحط واللؤم والبلاء ... بل عرف كيف يعيش على هامش طريقة تفتقد لجزالة فن الحب وابداعاته... مع اقراره بأهمية أن يكون في الوقت والسلوك نفسه رومانسياً وحالماً فقد أدرك بواسطة لاوعيه المكتسب من تجارب وعيه الموروث أن القليل من الخيال في الاتجاه الصحيح أمرٌ لا غنى عنه ومكملٌ لثلاثية النعيم: الماء والخضرة والوجه الحسن ...
حي هو ولا يشكّ في ذلك وكعادة الواثقين تراه غير مكترثٍ بشأن ما يخبئه من مشاعر المكابرة والعناد في بطانة ابتسامته الباهتة ...
وكأنه نسي فعلاً قدرته على التعبير وبشكل حقيقي ومذهل عن مكنونات نفسه، ومعرفة أن واقعه ليس أكثر من مواجهة بين خيارين: إما أمل وفكرة صادقة وهدف محتمل.
أو استسلام لظلال مزاجية يستقر على كفتها حظٌ سيء واحتقار نفس ...
لكنه حرّ ...
له خياله المزدحم بالأنماط المكررة البائسة، بالنميمة،والإشاعات والأكاذيب ...
وله أيضا ما يبرر ضعف إيمانه بكل ما تقوله أبراج الحظ..
وله من ميزاته الذاتية ما يفسر به إهماله لموهبة لملمة تلك الخطوط الفوضوية لفناجين قهوته الصباحية...
حياته ليست كلها خطأ وليست كلها صواب إلا أنه حي بمظهرٍ كامل ويشعر بأهمية الاعتراف بمركزية الشمس كل صباح كغيره من الكائنات التي تجيد مهارة التمثيل الضوئي وإن كان يتميز عنها بالتأمل الطويل العميق الذي جعله يرتاب أكثر في كل هذا الإطراء والمديح الذي تختال به نفسه يومياً لكن بالطبع دون التغلغل في مدى توافقه مع مصادر ذاته الأصلية...
فهو أبدا لا يحكم على نفسه... ولا يفكر بحياة تهدف إلى شكل أرقى من أشكالها ...ولا يعتقد بالحنين إلى خلود أزلي ..فيا له من متواضع!!
وله تفكيره الناقد، وأسلوبه الخاص الذي يستولي على ذهنه بصيغة متعادلة خالصة ..
حين يطيل التحديق بعيون مقعرة ترتشف ما تبقى له من معالم واضحة وجادة على مرآته...
أو أن يقتبس بتركيز وعمق شديدين من الشيب الذي يلف رأسه بدبلوماسية آخاذه سؤالا ميتافيزيقاً حول صيرورة الوعي يُجَسد به ما تبقى من فكر مقاومة خربشات الجدران لتجاعيد البيروقراطية...
حي هو ويدرك جيداً سرَ طغيان علامات الإستفهام على معظم ما قد يصل إليه من حلول واجابات...
ويعلم بأنه أمامها مقهور وضعيف الإرادة ومضطر إلى العيش في ذاتين منفصلتين الأولى ليجامل بها ما اتفق عليه عامة الناس من تقاليع الوجود حين يفقدون الرؤية والسيطرة ...
والثانية للعودة من حيث أتى... إلى قابلية حدائق روحه السرية على الأخد والعطاء مع أي شيء ذي قيمة ومعنى ....
نعم هو حي ولا يملّ الإستماع للإنذارات التي ترسلها رايات القلق الراسخ في أعماق نفسه قبل ان يبتلع بغُصّة حبة دواء أخبره الطبيب أنها ستثأر له من كل متطفل يظن للحظه أنه قادر على اختراق حصون جسده ... لكنه وكعادة الخائفين جداً بالغ في وساوس الحذر، فأغلق النوافذ والأبواب جيدا ، واغتال بتوحش كل نسمة عابرة خشية أن تكون محمّلة بكائنات تبدو له في دقتها غير مرئية حتى كاد بالفعل أن يموت اختناقاً ..
حيّ هو و لا يخجل أبداً من سذاجة دهشته حين تزف له نشرات الأخبار بسرور بالغ نبأ امكانية وجود حياة على كوكب اكتشف حديثا!
كوكبٌ لا ينتمي إلى مجموعتنا الغبارية التي باتت تعاني من صعوبات في التنفس وارتباك بعد ابتلاع تلك الكميات الهائلة من هوائنا الغبي المكتظ بفنون الإقصاء وأخبار المجازر والحروب والقتال ...
حيّ هو ؟ هكذا يعتقد حتى وإن لم يستيقظ من كآبته ويوازن بين أحلامه وحق من هم خارج أسوار الأمنيات... باقياً على حاله حرفاً ساكناً في اشكالية التناقض لعالمه ووجهه الآخر الذي يشبه ليل غابة استوائية ...
حي هو؟ هكذا يظن في حدسه رغم أنه لم يتجدد بعد بقوة خلاصية تنتزع من قلبه كل نبضة لم تصهر قوانين السماء في تحليقها الحرّ ....
تناقضات تختصر مظاهر الحياة على طريقتها تتجاذب وتتنافر أقطابها بلا توقف حتى تعطي لحركتها فعالية ما...
لكنها لا تجامل الوعي أبدا في نتائجها وبناء على ذلك تتحقق نتائج معادلات الوجود في الوعي "الإستاتيكي" للعقول بإضافة أو إِنْقاص ساعتين على المعدل الطبيعي للنوم .
بينما يعمل الوعي "الديناميكي" للحرة منها على تحويل ليلها إلى نهار لتتمكن من النوم بسلام!
هو حي إذن ؟ ربما
لكنه على الأغلب لن يفعل شيئاً لمواجهة تناقضاته وخوفه وقلقه سوى أن يترك مصابيح البيت مضاءه طيلة الليل !!!!

الجمعة، 15 يوليو 2016

بين ذاتية الماضي وموضوعية التاريخ


هل نبالغ لو قلنا أن محاولات الإنسان الأولى على بساطتها ومحدوديتها في مواجهة تحديات الطبيعة كانت هي أساس التقدم ... أم أن هناك دافع خفي كان يجذب الإنسان إلى جوهر الأشياء والظواهر من حوله وكأن لها سلطة مطلقة لا تنفك تعطي الأمر للعقل بالتحرك والبحث عنها وسط هذا العدد الهائل من المتغيرات والتحولات؟؟ 
ومع تنامي الوعي البشري واتساع آفاقه فيما بعد هل كانت سطوة ما تم اعتباره قديماً من الثوابت والقواعد والمسلمات هي السبب في خروج العقل عنها والبحث عن طرق جديدة لإثبات حريته واستقلاليته وبرهان وجوده؟؟ رغم الإعتراف بأن القضايا التي أثارت تلك التساؤلات لا تقبل الحسم لكنها بلا شك كانت فكرة التقدم والتطور التي أشعلت وعي الإنسان، وحملت ثقل امتداد المعنى لصرخة ضميره الذي لا يهدأ حين أدرك أنه لا سبيل للتقدم إلا بالبحث... 
ولا وسيلة للفكر في ادراك حقيقة الأشياء واثبات خصائصها إلا باخضاعها لآليات بحث تناسبها .. 
فإذا كنا نرى الوجود مكتوب بلغة رياضية وهي القياس لكل شيء فهذا يعني أن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحقيقة واليقين .. 
أما إذا كانت ظروف المعرفة ضبابية ومعتمة وتعج بالتناقضات فلا بد من فكر مستقل يمعن النظر بتعمق في معنى وجدوى المبدأ والوسيلة والهدف. 
لكن ماذا عن علم الحياة والحركة"علم التاريخ" العلم الحيّ النابض بسنن التقدم والتغيير حيث الإنتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، وما يقترن بهذا الإنتقال من خوف وتوجس ورغبة قوية تتملكنا وتجعلنا حريصين كل الحرص على أن يكون التغير والتبدل ظاهرياً دون المساس بالجوهر. فترانا نتساءل متأملين بإنصاف أهمية هذا العلم عن دور العاطفة في بناء المعرفة التاريخية ؟ 
وهل يمكن فعلاً أن نكتب ونقرأ التَاريخ بموضوعية بلا تحيّز ودون أن يساور الباحث أو القارئ شعور الحُبْ أو الكَراهية ؟ 
هل نحن على استعداد إذَنْ لأن نواجه تساؤلاتنا فعندما يلتقي أي موضوع بالعاطفة لا مفر من السير في دروب بحث شائكة ووعرة وبكل تأكيد ستزداد الأمور تعقيداً وتداخلاً في حضرة وعي مرتبك غير قادر على تنظيم العلاقات بين الأفكار والأشخاص وبين الذات والموضوع.. 
لذا أرى أنه من الضروري تحديد تصوراتنا على مساحة بيضاء مسالمة ومحايدة في أذهاننا نطرح فيها كل ما يخطر ببالنا من تساؤلات وأفكار دون أن تقلقنا مسألة الحرص على أن يكون ما نبحث عنه ملائما لأفكارنا السابقة أو الرأي السائد المفروض علينا أو حتى أن نكون في موقف دفاع حتى نتمكن من تناول الفكرة من جذورها فتتضح معالم الصورة الكلية لها ... 
نعلم بأن التاريخ هو علم يدرس أحداث الماضي ويبحث في القوانين والعوامل التي توجه حركة التاريخ وعوامل نشوء الحضارات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والعلمية التي رافقتها وأسباب انهيارها واضمحلال قوتها وهو خاضع للنقد والمقارنة والتحليل والتأويل والتعديل . 
لكن ما سر هذا الخيط الرقيق الذي يربط بين التاريخ والعاطفة حتى وإن لم نكن بصدد عقد محاكمة أخلاقية للوقائع والأحداث التاريخية ؟ 
أعتقد أن السبب يرجع إلى الأساليب البدائية التي كان يدون بها التاريخ وتفسر بها الظواهر حيث امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافة، واصطبغ الواقع بشاعرية الخيال وذلك لإضفاء المزيد من الجاذبية والعذوبة والتشويق على القصة التاريخية حيث أنها كانت بالدرجة الأولى شأنها شأن أي فن أدبي تهدف إلى مخاطبة العاطفة واستعراض جمال اللغة والصورة وهذا بالطبع كان على حساب المضمون والحقائق التاريخية ..
 إن التاريخ لم يصبح علماً إلا عندما تناوله العقل بالنقد والتحليل والمقارنة ...
هنا وكنتيجة لتلك الخطوة الفارقة حدث أمر مهم بالنسبة لنظرة الإنسان للتاريخ إذ لم يعد علم دراسة الأحداث الماضية وأحوال الأمم السابقة فقط بل توسع هذا المفهوم بحيث أصبحت المادة التاريخية أداة لفهم وقراءة الحاضر من منطلق أن الحاضر ليس الا نتاج سياسات الماضي بل والتنبؤ بالمستقبل من خلال الإلمام بمعطيات الحاضر وتفاصيله .وهذا يعني انتهاء عصر القراءة الرومانسية للتاريخ والذي كان يروى كقصة أو حكاية بهدف التسلية والإمتاع وحفظ ملامح أبطال وشخوص تلك القصص في عملية تحنيط تضمن لهم خلود سيرتهم وانجازاتهم في ذاكرة الناس.. 
لكن هذه النظرة العقلانية للتاريخ لم تمنع البعض من توظيفه لغايات إضفاء الهيبة والعظمة التاريخية على قرارتهم أو بتعبير آخر كانت طريقة لــ "عقلنة" أحداث الحاضر باجترار سلوكيات قام بها الأجداد في مناسبات مشابهة لكن على قاعدة أن البشر يفكرون بطريقة ويتصرفون بطريقة أخرى فالناس و على الرغم مما يظهر عليهم من مظاهر التقدم والتطور إلا أنهم في الغالب يستأنسون بالماضي ويرون فيه ينبوعا لا ينضب من الضمانات والتبريرات والتفسيرات لما يحملونه من مشاعر وأفكار بل قد يقودهم هذا التشبث الأعمى بالماضي بدلا من محاولة التكيف مع التغييرات والتطورات التي يفرضها التقدم إلى تقديس وتبجيل أشكال من السلوكيات انتهت صلاحيتها بكل المقاييس وفقدت قيمتها النفعية. 
برأيي هذا أمر غير صحي وباعث على التناقض والاضطراب فنحن فكرياً لا نرث زمناً أو أحداثاً تاريخية بل نرث ثقافة وهي فكر وروح الحضارة. 
أما الحضارة فهي ثمرة المعرفة والثقافة والتجربة . فالثقافة قد تكون وفق المنظور الحضاري والتاريخي "نقطة تلاشي" أو "الخلاصة " عل اعتبار أنها جزء من التاريخ وهو جزء منها فهي بحاجة لزمن لكي تتشكل وتتطور وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة . لكنها في تاريخ الحضارات تتميز بكونها هي الأساس الذي ينبثق عنه التحرك التاريخي. فهل يمكن أن تقوم حضارة في بيئة انعدمت فيها العلوم والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك مثلا! هل يمكننا تحقيق انجاز بلا معطيات علمية وثقافية! من هنا يمكن القول بأن وظيفة الثقافة الأساسية تتمثل في العمل على تنظيم وتهذيب سلوك الإنسان في صراعه من أجل البقاء لتجعله مواطناً صالحاً وعضواً نافعاً في مجتمعه ثم الإرتقاء به وبمظاهر حضارته المادية إلى مستويات أفضل .. وبناء على هذه الملاحظة نستطيع تمييز نوعين من الثقافة ثقافة جامدة ساكنة في تجاهل تام لحركة الزمن مكتفيه بالمستوى الحضاري الذي وصلت إليه مهما كان بسيطا ومتواضعا مقارنة بالحضارات الآخرى ... وثقافة محركة مرنة واعية لا تتآمر على ذاتها مدركة لتحديات العصر وهي بحركتها المستمرة تلك توجد لنفسها أسباب وعوامل بقائها واستمرارها. وهذا يعني أن الوعي الذي ينصف ذاته بثقافة قابلة للتجديد والتحديث يضمن استمرارية وجوده الحضاري مهما اختلفت ظروفه المكانية الزمانية... 
من المؤكد أن التاريخ في ترابط أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل يستمد معناه وقيمته من مستوى الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة التاريخية مما يعني أن محاولة احاطة التَاريخ ِالإنسَاني بِلَمحَة بصر أو بالبحث ِالعَشوَائي بينَ السّطور أمر لا يليق بدارس وباحث حقيقي بالتالي إذا لم يتسم البَحثُ التاريخي بالمَوْضوعية والتجرد فلا مَكانِ له ولا معنى بين العُلوم ويشمل ذلك حضور العاطفة أثناء صياغة وتحليل النص التاريخي فالحب والكراهية أمور نسبيه لا تعني شيئا في قاموس السياسة والتاريخ واعتمادها كأدوات قياس لفهم وتفسير الأحداث التاريخية التي تنتجها معادلة الزمن في عالم متغير هي علامة ضعف وخلل وارتباك.. لكننا قد نشك في امكانية تحقيق ذلك قائلين : أننا نطلب المستحيل حين نشترط اقصاء العاطفة تماما في تقييم الأحداث خصوصا أن الحالة العاطفية في كثير من الأحيان تكون خارجة عن سيطرة الإنسان وهو مزيج معقد من المشاعر والأحساسيس . 
ثم أن هناك الكثير من الأفعال التي يقوم بها البشر ذات منشأ عاطفي فكيف لنا أن نقيمها ونتعامل معها ونتفهمها بشكل صحيح دون النظر لها من منظور عاطفي ؟ 
إن المشكلة ليست بالتفاعل العاطفي بحد ذاته فكل ما يحدث حولنا يفرض علينا كل لحظة واقعا جديداً له تداعياته التي تؤثر فينا هذا أمر لا خيار لنا فيه لأننا بشر لنا ثقافاتنا ومعارفنا التي لم نكتسبها دفعة واحدة بل نتيجة تفاعل الوعي مع الأحداث خلال فترة طويلة من الزمن. 
هذا بالإضافة إلى أن البشر لا يأخذون مظاهر الحضارة بالقوة والقهر، بل بنسبه ما تلقى من قبول في نفوسهم ومدى ما تقدمه من فوائد تساهم في تطوير وتجديد معارفهم.. 
لكن موطن الخلل يكمن في عدم انسجام منطق العاطفة ومعيارها الذي يجيز التناقض ويتبع الرغبة مع طبيعة المعرفة التاريخية التي تقوم على دراسة الواقع كما هو وتناوله بالنقد والتحليل ..
 ذلك أن أهم الأسباب التي تقف وراء بحثنا عن المعلومة التاريخية ومطالبتنا بإماطة اللثام عن دوافع التغيير لكل مرحلة زمنية هي حاجتنا لرؤية مسؤولة تتسم بالشفافية والحياد ... 
لنضوج له شكل محدد يعالج تناقضاتنا ويقرب بين وجهات النظر المختلفة ويخضع أحكام العاطفة المتسرعة لسلطة العقل... 
كذلك يدخل في نفس الإطار لو قمنا مثلا بربط موضوع ينتمي لموجود متحرك وهو التاريخ الذي جوهره التغيير والإختلاف والتفرد أو عادات يمكن أن تنشأ تلقائيا عن الحياة اليومية لمجتمع ما بمفاهيم نحسب أن تصوراتنا عنها مطلقة, وثابتة كالخير والشر أو الصواب والخطأ،
 ثم تفسير وتقييم الواقع من خلالها متجاهلين تماما أن مضمون هذين المصطلحين أصلا قد تعرض للتغيير والتعديل في وعينا مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان. 
إن اعتماد هذا النمط من التفكير وفي كلتا الحالتين ليس إلا شكلاً من أشكال الوعي الزائف ولا أرى فيه إلا وسيلة تعبير عن ما يرضي الأهواء ويخدم المصلحة الخاصة ..
ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الصدامات بين وجهات نظر مناقضة للواقع ورؤية منحرفة حافلة بالنقائص مجيشة عاطفيا لا يمكن بواسطتها استخراج خصائص عالية التجريد توضح معالم الصورة الحقيقية للأشياء وتكشف عن القوانين الكلية التي تحكمها وتحولها من مرحلة إلى أخرى. 
وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ليست من مهام المؤرخ ولا من مهامنا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار فهذه قراءة غير عادلة تفتقر إلى الدقة والنزاهة خصوصاً لو كنا بصدد البحث عن الأسباب والغايات التي تقف وراء الأحداث التاريخية فما ينطبق على البعض ليس بالضرورة أن ينطبق على الكل وما هو خير أو شر في زمان ومكان محددين قد لا يكون خيرا أو شراً في زمان ومكان آخرين. 
إن ما يمكن اعتباره تصوراُ منطقياً وموضوعياً للخير والشر وصورة حضارية من صور رقابة الضمير على السلوك الانساني وعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى التعاطف والاجتماع والتعاون مع الآخرين و استجابة لحاجة الإنسان للحماية والشعور بالأمان ضمن جماعته التي ينتمي إليها هو حين عرف الإنسان من خلال فهمه ووعيه لهذين المصطلحين الخير والشر ماهية الحق والواجب واشتق تشريعاته وقوانينه لغايات تنظيم حياته في كافة المجالات . 
وما ينطبق على علاقة الفرد مع مجتمعه أو دولته ينطبق أيضا على الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.. 
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلغي أو نتجاهل أهمية القيم الأخلاقية ودورها حتى لو كانت على أرض الواقع غير قادرة على مجاراة القوة التي جعلت الإقتصاد والتسلح العسكري هي مجالات التنافس والصراع بين الدول.. 
والآن هل هناك ما هو أكثر سوءاً وسذاجة من الإعتقاد بأن التاريخ مدينة يسكن المنتصرون في متونها بينما يكتفي المهزومون بالهوامش ؟ 
الحق أن عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا أرى فيها أكثر من وجهة نظر مهمة قيلت في ظروف سياسية معينة تناسبها أمّا السذاجة الحقيقية كانت في انتشارها كمفهوم للتاريخ واعتبارها قاعدة من قواعد المعرفة التاريخية. فما جاء به التاريخ لا يختلف عن واقع عالمنا المعاصر الذي تحكمه وتحركه المصالح ولا يخالف قانون الزمن الذي لم يستثنِ أمةً أو مجتمع من حركة التغيير تلك ولم تسلم بفضله فئة من خوض صراعها الحضاري في سبيل تحقيق ذاتها... 
ولا ننسى أنه وفي الجهة المقابلة من التاريخ هناك جانب مشرق قائم على الحلول الوسط .... جانب أكثر سلاماً وهدوءاً يؤكد لنا التاريخ فيه أن الحضارات تتلاقح وتتكامل فلا حدود فيها للكفاية فيما تقدمه للإنسان من وسائل الرقي والتطور والتفاهم والأمان والاستقرار والسلام . 
في النهاية تبقى مسؤولية المؤرخ مسؤولية أخلاقية فهو الضمير الذي تستند إليه البشرية للوصول إلى الحقيقة والهدف ليس اثارة المشاعر وشحن النفوس بل مخاطبة العقل وتحفيزه برؤية متكاملة للتاريخ بكل ما يحتويه من قيم ثقافية وجمالية تشجع الناس على تقبل الآخر واستيعاب تطورات العصر والانسجام معها بأقل عدد ممكن من الأخطاء والخسائر، أي أن يقدم لنا من مستودع الخبرة البشرية ما يثبت أن الكلَّ في دائرة الزمن تاريخ...

السبت، 21 مايو 2016

البتراء




البـــتــــراء


ما أجملها... 

حين يرتفع منها اللون منافساً عذوبة حمرة الأفق 

على جبين السماء..
حين تبوح بدلالات رموزها ...

 بسر صمودها وشموخها وصمت حزنها الأنيق ...
في أن تكون وردة مخفية في رحم مساحة حرة تحتضن أنماط الحياة ...

وواحة آمنة على طريق سفر طويل... 

البتراء... هي الصخرة التي لا تخون ...

هي النتيجة المنطقية لتواصل العاطفة مع الذاكرة

هي تسجيل الحوار الداخلي لزمن استعصى على النسيان...

هي حالة فريدة من السّلام والتفاهم والتناغم بين البشر والحجر.

 بين الروح والمادة. 

بين سطوة التاريخ ورقة الحضارة.

الثلاثاء، 17 مايو 2016

قراءة في محاورة جورجياس لأفلاطون البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية ...

كان فنّ الخطابة في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد هو السبيل الوحيد للوصول إلى مراتب ومراكز عليا في أثينا، سواء في مجالس الحكم والجمعيات أو مراكز النفوذ والسلطة. 
هذا بالإضافة إلى أنه كان وسيلة للثراء والكسب السريع نظراً لرواج مدارسه كنوع جديد وجذاب من التعليم العالي يحظى باحترام الجميع وتقديرهم ....  
(فن البيان) أو البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية 
هذا هو الموضوع الذي تتحدث عنه محاورة جورجياس التي كتبها أفلاطون في الفترة التي تقع بين ( 395 -390) ق.م. 
 ما هو البيان؟ وما الفائدة منه ؟ وهل هو حقاً فن الكذب الضار بالدول والأفراد ؟  
تلك هي الأفكار الني يناقشها أفلاطون في المحاورة. 
حيث يتقابل المذهب الفكري السقراطي القائم على أهمية حضور الخير والحق والعدل في حياة الإنسان ومدى أثرها على سلوكه ... 
مع فكر السفسطائيين وأتباعهم وطريقة توظيفهم الفوضوية للبيان لغايات تحقيق مآرب أو منافع شخصية واقناع الشعب واستغلال جهله بخطابات بعيدة كل البعد عن الحق والفضيلة والعدل والمصلحة العامة...  
اختار افلاطون أطراف الحوار بحيث تمثل تنوع الطباع في مجتمع أثينا فكانت الشخصية الرئيسية سقراط في مواجهة ثلاثة من السفسطائيين وهم جورجياس أستاذ البيان بقلبه المفتوح لإسئلة الجمهور والذي يعرف بخبرته كيف يجنب نفسه الوقوع في فخ التأكيدات لكنه واثق كل الثقة من أنه منذ أصبح خطيبا لم يوجه له أحد سؤالاً قد يكون مفاجأة له ....  
بولوس المتحمس لفكرته وحاله كحال جورجياس يعرف متى يتراجع عنها في حال استشعر ضعفها وتناقضها مع المبادئ والقيم. 
أما كالكليس فيختلف عن سابقيه باندفاعه وتسرعه لإثبات فكرته على حساب الأخلاق والقيم،وهو بطبعه هذا نراه ينهي النقاش مع سقراط غاضباً أكثر من مرة لكنه وبإلحاح من جورجياس يكمله على مضض مستمعاً فقط ومجيباً بمجاملات عقيمة تكشف اصراره على البقاء على طباعه وأفكاره متجاهلا كل ما يقوله سقراط !  
كان لسقراط أسلوبه المميز في ايصال رسالته أو ما يسمى بـ"الديالكتيك" وبواسطته يستعرض أفلاطون تلميذ سقراط الأكثر شهرة في مؤلفاته أفكاره ونظرياته فهو يبدأ بطرح الأسئلة على خصومه بحيث يختارها بطريقة تجعل خصمه يقع في التناقض حتى إذا ما وصل إلى هذه المرحله التي يؤكد فيها لخصمه بأنه لا يمتلك الحقيقة يعود سقراط لطرح الأسئلة من جديد لكن هذه المرة حول ماهية الموضوع بهدف البحث عن الحقيقة وللوصول إلى نتيجة أو إقرار. 
  ولأن البيان هو أفضل وأجمل الفنون جميعاً على حد قول بولوس. 
فقد رأى سقراط في هذا القول مدحاً لا اجابة على سؤاله ما هو البيان.  
فإذا كان البيان هو ذلك الفن الذي يحقق مهمته بالكلام وحده وقد اكتسب بهذه الصفة الأفضليه على غيره من الفنون فماذا سيقول كل من الطبيب والتاجر والفلكي والموسيقيّ وغيرهم عن فنه وهي متصلة أيضا بالبيان لكن لها جانب عملي يشترط فيه سقراط دائما أن تكون غاياته من أجل الخير والفضيلة ... 
 هذا التساؤل يدفع بجورجياس للقول بأن البيان هو عامل اقناع، ومهمته هي الإقناع وتحقيق السيادة في المجتمع، 
أي القدرة على اقناع القضاة في المحاكم والمواطنين في مجالسهم وتجمعاتهم، 
لأن البيان يضمن جميع القوى ويسيطر عليها، فالخطيب قادر على اقناع الناس بفكرته وله سلطة بأن يملي عليهم من يراه هو مناسبا من أصحاب المهن المختلفة وفي الانتخابات. 
لكن هذا لا يعني أن يتم استخدام البيان في أمر ينافي العدالة والإستقامة فهو كغيره من فنون القتال لا تستعمل بذات الطريقة مع الأصدقاء والأعداء.. هنا يتساءل سقراط أي نوع من الإقناع فكل أنواع العلوم عوامل إقناع ليس البيان وحده ! 
لذا لابد من التفريق بين العلم أو المعرفة والإعتقاد. 
فنقول مثلا هناك اعتقاد حق وآخر باطل لكن لا يمكن اطلاقاً أن نقول هناك علم باطل وعلم حق. 
وعلى هذا الأساس فإن البيان الذي يدعيه جورجياس هو عامل اقناع عقيدة وليس اقناع علم حيث أنه يُكسب المتلقي رأياً لا علماً ،فهو لا يحتاج إلى معرفة الحقائق حول الأشياء التي يتحدث عنها حسبه أن يجد طريقة يقنع بها الآخرين...
  أمّا القوة التي يُحَمِّلها بعض الخطباء للبيان وتجعل الخطيب متفوقا على أصحاب العلم أنفسهم فيخضع لها المتلقي الجاهل الذي لا يملك أي معرفة حول الموضوع المطروح.. 
هنا وفي نظر الجهلة فقط يكون الخطباء أكثر علماً من العلماء وأصحاب الاختصاص... 
 أما التناقض الصارخ الذي وقع فيه جورجياس ولم يكن صعباً على رجل مثل سقراط برع في مزج العلم بالعمل وكانت حياته تجسيداً عمليا لأفكاره الإمساك به. 
فجورجياس يفترض أن البيان لا يمكن أن يكون ظالماً، وهو فن ينشد العدالة دائما ويُعلِّمها، فكيف يقول فيما بعد بأن لا مسؤوليه على أستاذ البيان في حال لم يتصرف أحد تلامذته وفق العدالة. 
وهذا التناقض إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن البيان قد يستخدم استخداما ظالما !
 أليس من عرف العدالة وتعلَّمها سيتصرف وفقها؟؟؟  
يكمل سقراط تعريفه للبيان في محاورته الثانية مع بولوس، ونراه في هذا الجزء ينزع رداء المثالية عن البيان فيقول:
 بأنه لا يراه فناً على الإطلاق، فهو ليس أكثر من تجربة وممارسة وتدريب، شأنه شأن الطهي مثلاً، فكلاهما يهدفان إلى انتاج نوع خاص من اللذه والمتعة والسعادة. 
وهذه النقطة تحديدا هي ما دفعت سقراط إلى اعتبار البيان جزءً من التملق كما هو جزء من السياسة. 
فالخطيب لا يمانع من أن يضع على فكرته أي قناع، كشكل من أشكال الزينة للفوز بالاعتبار ورضا الناس واستحسانهم. 
وهذا سلوك لا يوافق مبادئ العدالة، ولا يحقق الخير وهو شيء رديء وضار...  
وبدوري أتساءل مع سقراط أي سعادة تلك التي سيحققها لنا هذا النوع من الخطاب حين يُحرَم الناس من قدرتهم على التمييز والتقدير وحقهم في الاختيار ؟؟؟ 
وكم يطيب لنا التأمل والتفكر والتعلم في اجابات سقراط على تساؤلات بولوس ... 
أليس للخطباء سلطان قوي في الدولة يقتلون وينفون من يشاؤون من الناس؟؟ 
ألا يكون الرجل الذي يمتلك تلك القوة جديراً بالحسد سواء فعل ذلك بعدل أو بظلم ؟  
كيف يكون ارتكاب الظلم أفدح الشرور ولا يكون تحمله أسوأ من ارتكابه أي قوة في تحمل الظلم يا سقراط؟؟ 
ألا يكون المرء سعيداً بارتكاب الشر والعيش في الظلم والهرب قدر الامكان من العقاب؟
يرى سقراط أن الخطباء من هذا النوع كالطغاة هم أقل المواطنين سلطاناً. 
فهم لا يعملون شيئا مما يريدون لكنهم يعملون ما يعتقدون بأنه الأفضل والأحسن بالنسبة لهم .  
فإذا كانت القوة المطلقة في الدولة هي الخير ونحن نفعل الأشياء المحايدة التي هي لا حسنة ولا رديئة من أجل تحقيق غاية حسنة وهي الخير. 
فالطاغية الذي يقتل وينفي ويجرد من يشاء من أملاكه لو صادف أن كان فعله هذا متعارضاً مع مصلحته أو غايته فهل تراه يفعل ذات الفعل ؟! 
بالتاكيد لا. 
 إذن هو لا يملك سلطانا على أفعاله وليس مثار حسد بل هو تعيس يستحق الرحمة. " إن أفدح الشرور هو ارتكاب الظلم".  
إن ارتكاب الظلم أفدح من أن تكون ضحية له. 
كذلك الإفلات من العقاب أفدح من تحمله، 
ثم أن ارتكاب الظلم أكثر ايلاما وضرراً. فالذين يرتكبونه يتألمون أكثر مما تتألم ضحاياهم. 
وحتى لو كان ألم التحمل أكبر فمن المؤكد أن ارتكاب الظلم أشد ضرراً.. 
فهل هناك واحد عاقل يفضل لنفسه الأكثر ضرراً؟؟ 
إن الإنسان نفس وجسد، فكما نهرع إلى الأطباء لمعالجة خلل أو ضعف أو ألم أصاب أجسادنا ونحتمل مرارة الدواء وألم العلاج وهو ليس أمراً مستحباً لكنه ضروري من أجل الشفاء كذلك هو حال النفس مع أمراضها الظلم والجهل والجبن فإن العقاب العادل يطهر النفس من نقائصها وعيوبها ... 
إن أسعد الناس إذن هو ذلك الذي تخلو نفسه من الضرر وضرر النفس هو أفدح الأضرار..  
في هذه المقارنة تحديدا تتجلَّى معنا الفائدة التي ينشدها سقراط من البيان، ألا وهي على البيان أن يستمد محتواه من مفاهيم ومبادئ مستقلة عن ذواتنا وأهوائنا الشخصية. فوظيفته تكمن في إلقاء الضوء على نقاط الخلل والضعف فينا، وتوجيه النقد لعيوبنا وأخطائنا، واقتراح حلول وأفكار لمعالجتها. 
أي أن يعمل على جعل نفوس المواطنين أفضل سواء سرّ الناس ذلك أم لم يسرّهم ...  
الجزء الثالث من المحاورة بين سقراط والشاب المندفع كاليكليس الذي يبدأها بذكر أمثلة من التاريخ التوسعي "الاستعماري" للدول ليؤكد صحة نظريته التي تقول:
 بأن مفهوم القوة الذي أثبتته الطبيعة هو القانون الأعلى، وأن الطبيعة والقانون يتعارضان، فما هو قبيح في نظر القانون قد يكون جميلاً في نظر الطبيعة، وعليه فإن الأقبح تبعاً للقانون هو ارتكاب الظلم فيما يكون الأكثر قبحاً من وجهة نظر الطبيعة هو احتماله وذلك لأن احتمال الظلم لا يلائم انساناً حراً .. 
وما القانون إلا طريقة ابتدعها الضعفاء وهم الأكثرية لكي يخيفوا فيه الأقوياء.. 
وما الظلم إلا مخالفة قانون الطبيعة الذي يثبت سيادة القوي على الضعيف والاستعلاء عليه 
فالخير ملك للأكثر قوة وسلطاناً وقيمة وهو حق له..  
 ثم إن الخير الذي يجلب السعادة، هو في أن يحقق المرء لنفسه كل رغباتها. 
أما الشجاعة من وجهة نظره هي في تجاهل الآخرين وأحكامهم وطرقهم وضعفهم الداخلي الذي يمنعهم من تقليده -كونه مثار حسد- في سبيل اشباع رغباته ..  
لكن سقراط وفي مقارنة ذكية لا تخلو من حس التهكم، يعقد مقارنة يثبت فيها أن القانون والطبيعة لا يتعارضان، إذ يقول لو كانت الأكثريه هي التي تضع التشريعات والقوانين لأنها ترى ارتكاب الظلم أكثر ضرراً من احتماله؛ فإن هذا الأمر يتفق مع الطبيعة التي تكون فيها القوة مع العدد الأكبر. 
وهذا يعني أن قوانين العدد الكبير، والتي هي قوانين الأكثرية في نظر القانون والعرف، هي قوانين الفئة الأفضل والأكثر سلطاناً وقيمة ...  
لكن كيف لنا أن نفهم وسط هذا الجدل حول الأكثرية والأقلية والأفضل والأكثر قيمة عبارة سقراط حين يقول : 
إن العدالة للشجعان وهي تقوم على المساواة ..  
تعني أن كل واحد منا هو الأذكى والأفضل في مجاله ونوع اختصاصه، إذا كنا في أقوالنا وأفعالنا نبحث عن المستحب من أجل الخير، ولا ننشد الخير من أجل المستحب .. 
أمّا الشجاعة فهي أن يكون الإنسان سيد نفسه يحكم نفسه وأهوائها قبل أن يفكر بحكم الآخرين ...
تنتهي المحاورة لتبدأ قصة سقراط وحيداً مع نفسه التوّاقه إلى عالم يسوده العدل والنظام ..
إلى عالم الآخرة... 
وإني أراه بعين نفسه سعيداً... 
حراً وقوياً...
فالعدالة نظام سماويّ التكوين، 
وخير القول والعمل صدقها ومعناها...
 وهي صديقة نفوسنا الطامحة للاستقرار والسلام ...
 إن ارتكاب الظلم يبقى الفعل الأشد ضرراً... لكن هل احتمال الظلم ومقاومته بالحكمة المنبثقة من مبادئ العدالة وروحها يزيدنا قوة؟؟ 
نعم، لا شكَّ في ذلك ... 
لأن كل فعلٍ إراديّ يجعلنا أقوى... 
حينها سنعرف كيف نجنب أنفسنا أهوَن الشَّرَّيْن..  
وفي جميع الأحوال لا مفرّ من التسليم للقَدَر على أمل النجاة والسلامة ...

الجمعة، 29 أبريل 2016

يا وطن ..





يا وطن تمهل... انتظر... لا تذهب
لا تغادر خريطة العالم ...
كن واقعا يتسع للجميع ...وطنا لا يقبل القسمة ....
 كن كما أراد الله لك أن تكون ...سر الكلمة... عباءة نبي...  

عيون غارقة في البحر ... صرخة الصبح في وجه السكون...

متن حضارة عانقت الشجر والحجر ...

يا وطن
أيها الصامد بحكمة وعمق الجرح لا تتركنا
 أيها الملهم المسكوب على نافذة الحلم... كن معنا كما كنت دائما ... راضيا متسامحا...ولا تلمنا على الجزء الغامض من صمتنا... على ليل هزائمنا الطويل...
يا وطن ...
نسألك بنقش ساعات الانتظار على وجه المدن المحاصرة ...
بأبجدية الشوق المنحدرة من حقائب السفر في بلاد الشتات ...
بقوة الصلوات الصاعدة إلى أوطانها السماوية ...
 بشريعة الحق ... أن تبقى

الأربعاء، 27 أبريل 2016

روح..وحنين...وذاكرة

رغم أن الموت هو توقف القلب عن العمل حيث يرحل إلى غير رجعة  سر الحياة من الجسد إلا أنه يبقى من حديث الرحيل سر ضبابي يعمل في الخفاء ... 
حنين لا يموت ولا يفنى ... 
تبثه الأرض بانتظام أثناء احتضانها للجسد.
وأمام عظمة الحنين وعنفوانه واصراره على أن يكون حاضراً في أوقاتنا كالشمس والقمر..  
ولأن قلوبنا حين تفارق من تحب تصبح أكثر رقة تحرقها شرارة شوق؛ فلا مفرّ من التسليم له والاقتران بخطوطه اللامرئية..  
دائما، وفي كلّ قصص الموت هناك أشياءٌ لا تموت روح ... وحنين... وذاكرة !!!

الأحد، 24 أبريل 2016

نهارك المنتظر..

أن تحب يعني أن ترى في فضاءات حضوره كوناً متجدداً لا تمل حواسك من التحليق بين شموسه وأقماره التي لا تعد ولا تحصى!!
أن تخبره كيف أصبحت ساعات النهار على قلتها تغطي فيك مساحات الأمل...
وكيف أمسى الليل حارساً على طقوس اكتمال القمر، وشاهداً على أحاديث حنين تتوهج بالتزامن مع إيقاع كل تفاعل نجميّ يكسر بمجاز الضوء صمت الظلام.
فالحنين في الحب هو أن تحترق إنتظاراً وشوقاً لنبضٍ يضيء في دمك بينما تهمس له قائلا: ها أنا برغم واقعي المشحون بآلام الوعي أتصاعد فيك كطيف حلم.
الحب هو أن تسمح لفرح غامض بأن يسْتَلَّ من دروب يومك المتشعبة تفاصيلها الغريبة.
أن يكون هو نشيدك الكوني الذي يحفظك وتحفظه عن ظهر قلب وتدوّن بإسمه صفحات عمرك لكي تجد نفسك فيه ...
الحب هو أن يمتلئ عالمك بذلك الإختيار الإرادي رغم إيمانك بأن الحب لا يتشكل في القلوب إلا يقيناً يكتشفنا، ويختر عنا،ويعيد صياغة أيامنا، ويأخذنا دائماً إلى حيث لا ندري.
الحب هو أن تشتعل بسرّ جمال تزهو به مرآه القلب ...
جمال لم ولن يتكرر على وجه بشر ...
فلا أحد يراه كما تراه أنت، ولا أحد يدرك تسارع لهفتك لرؤيته كما تدركها أنت ..
أما اللهفة في الحب هي أن تقول للحلم الذي فاض من يديه : تعال أيها المضمّخ بأغنيات الفرح ونسائم السلام تعال إلى أيامي وانتشر ..
الحب هو التحرر التام من قيود اللغة لذا سمه ما شئت فمن العبث محاولة اخراجه من بؤرة الشعور.
ولماذا عليك أن تكون موضوعياً وحيادياً في مسألة داهمت كيانك كشلال هادر!
فأنت حين تحب تتحول إلى أبجدية من نار لا تخشى شيئاً ولا تحسب حساب أحد.
وتصير روحاً عاشقة هائمة أشبه بعصفور قدسته سماوات الحرية ...
فالحرية في الحب هي أن يتدفق كل منا في دم وفكر وروح الآخر
بلا قيد أو شرط...
بلا توقف أو نهاية ...
يولد الحب وينمو ويكبر في صدرك معززاً مكرماً، يحتلك هذا الطفل الذي يطوق عنقك حين ينظر إليك بعينين شفافتين تقرآن بصوتك حالة وجود مرهونة بحركة كوكب يعوم في السماء بحثاً عن طيف نهار.
نهار ينتشلك من لعنة اللاعودة وليلها الأبدي.
من موتك الرمادي.
من وديان ذاكرتك النازفة.
من ثقل هم يوقظ جراحك بظلم يعيد نفسه في دروبك.
هو الحب وحده نهارك المنتظر، يحملك إلى مجرات من نور وطمأنينة، لا يمسها ظلام خوف، ولا تطالها ثرثرة الرماد .

الجمعة، 1 أبريل 2016

قراءات في الذات الإنسانية.. الشخصية



كم نستهين بدوافع فعالياتنا الشعورية... بأسرار ادراكنا، ووجداننا، ونزعاتنا!!
بل كثيراً ما نفضل السير على خطى قوى عالمنا المضطرب حين نتجاهل أسباب صراعاتنا الداخلية ونختلق فلسفة مشوهة للقوة وكأننا في حربٍ دائمة لا نهاية لها وقودها عقل منغلق وقلب متبلد وكرامة انسانية غائبة ..
وكم نخطئ في حق أنفسنا وفي حق الآخرين حين نصدر أحكامنا مكْتَفِين ببعض المظاهر الجسدية والسلوكيات الظاهرة والصور النمطية التي تفتقر إلى الوضوح والمنطق دون أدنى فكرة عن طبيعة الشخصية الإنسانية ....
وكأننا في حديثنا عن أنفسنا وعن الآخر نخوض جدالاً عقيماً تناسينا أو نسينا فيه أننا مختلفون !! لكننا مجبرون رغم الإختلاف والخلاف على ايجاد نقاط مشتركة ومساحة للحوار والعيش المشترك تعطي لكلّ ذي حق حقه ولكل شخصية حرية التعبير عن هويتها المميزة التي جُبِلَتْ عليها ....
يقول الشاعر الألماني يوهان غوته:
"تنمو الموهبة مع الهدوء والسكون ، و تنمو الشخصية بخوض معترك الحياة"
فما هي الشخصية ؟؟ ما هي مكوناتها؟؟ وما علاقتها بالطباع والمظاهر الجسدية والمادية و البيئة المحيطة بها ؟؟
رغم كثرة التعريفات حول الشخصية يمكن القول بأن الشخصية هي : 
مجموع الاستعدادات والميول والسلوكيات والإهتمامات والقدرات والمواهب والصفات الثابتة التي يتصف بها الفرد والمستمدة من موروثه الجيني ومحيطه التربوي والإجتماعي واتحادها اتحاداً مميزاً بحيث تجعل الفرد مميزا عن الآخرين .
لكن ما هي العوامل التي تؤثر على الشخصية الإنسانية؟؟
مما لا شك فيه أننا من الناحية البيولوجية نخضع لنظام غددنا الصماء فالهرمونات تؤثر على بناء الشخصية وأنماطها وتنظيمها وأيّ خلل أو اضطراب يصيب هذه الغدد سينعكس على سلوك الفرد.
أما الجهاز العصبي فهو يساعدنا على التكيف والمواءمة والمرونة في التعامل مع الأوضاع والظروف الاجتماعية المختلفة..
ومن العوامل المهمة المؤثرة على الشخصية هي المظاهر الجسدية فإن الجسم المتمتع بالصحة والقوة يجعل الفرد واثقاً من نفسه ،مقبلاً على الحياة، لكن في حالة كان الجسم ضعيفاً ومعتلاً أو مريضاً سينعكس ذلك على الشخصية ويضعفها نتيجة الشعور بالنقص وقد تدفع تلك المشاعر السلبية بصاحبها إلى فقدان الطموح والانطواء والانسحاب من الحياة ما لم يتلقَّ الرعاية الصحية والنفسية اللازمة بحيث يصبح بإمكانة المشاركة والمساهمة والتفاعل مع مجتمعه دون حواجز أو قيود ...
هذا بالإضافة إلى أن صفاتنا الجسدية تترك آثارها على شخصياتنا من خلال نظرة الآخرين المحيطين بنا فنظرتنا لأنفسنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظرة الناس إلينا وانطباعاتهم وتصوراتهم لكن حكم الناس في الغالب لن يكون منصفاً لنا لإعتماده فقط على المظاهر الجسدية والمادية واغفال المضمون والطباع المكونة للشخصية هذا غير أنهم يوظفون منطق العاطفة للخروج بتصور يرضي رغباتهم بغضّ النظر إن كانت هذه الصفات التي يطلقونها على الأشخاص موجودة فعلا أم هي مجرد اسقاطات أو تكهنات وخيالات...
ومن هذه النقطة تحديداً أذكر مقولة دارجة في ثقافتنا "كـلُّ يرى الناس بعين طبعه" يمكن اعتبارها تلخيصاً لما سبق...
ما دور العقل والعاطفة في تكوين الشخصية؟
إن النظرة المتزنة للأمور، الذكاء والقدرات ،الاهتمام بالتفاصيل التكيف مع البيئة والتفاعل معها ، قوة الذاكرة ، وحسن التصرف في الأوقات الصعبة كلها مقومات أساسية من مقومات الشخصية أما العاطفة فلولاها لما أخذت الشخصية هويتها المميزة وهي بالنسبة للآخرين تشكل دلالات يستطيع الناس من خلالها ادراك مواقفهم وتصوراتهم حول الشخصية..
والعاطفة هي مجموعة من الانفعالات تتركز حول موضوع معين تدفع الإنسان إلى القيام بسلوك يرتبط بهذا الموضوع.والعاطفة سواء كانت عاطفة حب أو بغض تتشكل نتيجة التجارب التي نخوضها والخبرات التي نكتسبها في هذه الحياة ..
والآن يجدر بنا التساؤل حول تأثير الطبع وأصالة الفطرة على الشخصية وهل يمكن توجيه الطباع وصقلها بحيث تتكامل الشخصية وتتناغم عناصرها بشكل يظهرها كوحدة متماسكة ؟؟
ترتبط الطباع ارتباطاً وثيقاً بالمظاهر الجسدية والظروف والبيئة والعاطفة ...
 والطبع : هو الصفة الفطرية التي ولدت مع الكائن الحي وما يقوله المفهوم الشائع الجامد عن الطباع هو استحالة تغيرها من حالة إلى حالة حيث تلعب الوراثة دورا رئيسياً فيها وقديماً آمن الناس بدور الوارثة من خلال ملاحظتهم للشبه الكبير بين الأباء والأبناء...
بقي هذا المفهوم سائداً حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث بينت نتائج تجارب العالم النمساوي مندل (1822-1884) واضع أسس علم الوراثة آلية انتقال الصفات الوراثية من الآباء للأبناء وكيف أن هناك صفات سائدة وأخرى متنحية قد لا تظهر في الجيل الأول لكنها قد تظهر في أجيال لاحقة...
لكن في المقابل تم رفض الحرية المطلقة للصفات الوراثية وبدأ العلماء يركزون على أهمية التربية والترويض في صقل الطباع وتهذيبها ..
أما ما كان يسعى العلم إليه حقا في هذا الاتجاه هو اثبات أن المادة الوراثية غير منفصلة عن الظروف المحيطة بها فهي قابلة للتكيف والتطور بما يناسب البيئة والظروف المحيطة. لخصها "إيفان ميتشورين" (1855 - 1935) وهو عالم بيولوجي سوڤياتي انطلاقاً من فرضية أن "الصفات المكتسبة تتنقل بالوراثة" بقوله :
"إننا لا نستطيع انتظار احسان الطبيعة بل إن عملنا هو انتزاع هذا الأمر منها"
وبين ما هو فطري ومكتسب ولفهم كيف تتكامل الشخصية عند سيغموند فرويد ( 1856 - 1939) مؤسس علم التحليل النفسي فقد اعتبر أن الشخصية الإنسانية تتكون من ثلاثة أقسام :
-طبقة دنيا الهو Id : وهي مصدر الطاقة والدوافع البيولوجية الغرائز والرغبات المكبوتة لا تحكمها الضوابط غايتها الحصول على اللذة بأي طريقة ...
-الانا الأعلى الطبقة العليا Super Ego :هي السلطة الداخلية أو الضمير مستودع الأخلاقيات والآداب والمثل ..
-الانا الطبقة الوسطى Ego :وهي مركز الوعي والارادة والشعور مهمتها التوفيق بين مطالب الهو والمبادئ والقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تفرضها الأنا العليا وهو ما يسمى بتكامل الشخصية وفي حال عجز الأنا عن التوفيق بين الهو والذات العليا اضطربت الشخصية ومالت إلى السلوك الغريزي العدواني ...
من المؤكد أن البيئة العائلية والتعليم والقيم الروحية والعادات الإجتماعية جميعها مؤثرات تترك بصماتها على الشخصية وتطورها ودورها يتمثل في تحويل الطاقة القوية للغريزة أو الدوافع الفطرية إلى نشاط هادف ومقبول مثل التركيز على رعاية وتنمية المواهب والهوايات المختلفة أو تشجيع الأفراد للتوجه نحو العمل الاجتماعي التطوعي ثم السمو بدافع الغريزة وإعلائه إلى مستوى عاطفة تعمل من أجل تعزيز عاطفة اعتبار الذات والخروج من الذات الفردية إلى ذوات الآخرين والتكامل معها ...
إن الحاجة النفسية الأكثر لزوماً لتسير الانسانية في طريقها نحو تحقيق أهدافها هي الإيمان بأهمية وقدرة التربية والمحيط الجيد والرعاية الواعية للوصول إلى محصول جيد.
إن التربية السليمة التي يتلقاها الفرد في المنزل والمدرسة والقوانين العادلة التي تراعي الأسس النفسية للفرد والرعاية الصحية والاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها كفيلة بأن تجنب الأفراد ويلات الإنحرافات النفسية والعقلية ..
إن مجتمعاً يعاني أفراده من غياب العدالة وتفشي الجهل والفقر والبطالة والإهمال تبقى فيه الشخصية تحت ضغط نفسي كبير قد يتطور إلى صراع داخلي يبدد طاقتها الإيجابية ويغرقها في الاضطرابات والضعف والسلوكيات المتناقضة..
وقد يدفعها الإحباط وفقدان الهدف إلى توكيد ذاتها واثباتها من خلال اللجوء الى العدوان وايذاء الآخرين ...
فالإنسان حصاد الوراثة والتربية والظروف فلنحرص على أن نوفر لأبنائنا تربية صحيحة وظروفاً صانعة للشخصية القوية ..
وإني أرى أن الشخصية القوية هي الشخصية المتكاملة المتصالحة مع نفسها ومع محيطها... 
هي شخصية لم تقف الظروف والتجارب السيئة عائقاً أمام أصالة فطرتها وطباعها. لكنها تكاملت مع كل قيمةٍ انسانيةٍ راقية أظهرت فيها اتزان العقل وجمال العاطفة وصلابة الإرادة وسلامة الاستنتاج والمنطق ...

الجمعة، 19 فبراير 2016

في قاموس الحب



وتراني كلما نظرت في عينيك وهي تغمر بحنان نقش الشوق على كفّ الرؤيا أتساءل في سري 
عن أمنيةٍ مفتونة بأسماء الأيام التي صنعت من لقائنا احتفالاً ...
وعن رقة نبض يتمشّى في طرقات القلب باحثاً عنك...
 ثم عن أمرٍ خفيّ يجعل لغتي من يقيني بك تغار وتقول كل ما لم يقال في حضرة عاطفة تلمع في سمائي كالبرق..
 وفي قاموس الحب: الموت لا يسمى موتاً ولا الحياة حياة... فالحب اسم يختصر كل شيء وكأنه طريق سحري يصل بين مدينتين أو مسافة ثابتة بين نجمتين... 
 أما المعنى فلا يكتمل إلا بولادة ثانية نسافر فيها نحو أعماقنا المجهولة لنتصالح معها ونقرأ السلام هناك من جديد على أسمائنا وعلى تميمة الحظ التي اختارها لنا القدر لتملأ خريطة وجودنا بالطمأنينة ..
إن أعظم ما علمتني إياه عيناك هو أن لكـــلِّ شيءٍ روح حتى الحديث الوداعي المفعم بالأمل الذي تختتم به الأشجار في الخريف قصة مسيرتها الصاخبة ...
 روحٌ حفظت تأويلها العذب على صفحة نهر الأزمنة المتجدد خشية أن يلامسه سديم الحزن ويتعكر شكل ذلك الانعكاس الذي أحببناه ... 
 أمّا أجمل ما علمتني إياه عيناك وأنا أتأمل اكتمالها الربيعي: أن أكتفي بها، وأستمع لها، واتحد بأقدارها، أن أتوه وأضيع وأتألم ثم أنسى لأحبك أكثر وأكثر .. أن أحب نفسي وأهتم بها كما تهتم الموسيقى الذائبة في صوتك بحروف اسمي....
 آه لو كانِ بمقدوري كلما نفذت طاقة الصبر لديّ اجتياز أثير زمن الانتظار والتَطلع إلى صورتِي المجسمةِ في مرآة روحك…
يا ليتني أقدر... بل أقدر!!

الخميس، 11 فبراير 2016

كن متسامحاً...


 
كن متسامحاً ...
 حتى لو غابت عن فوضى ألسنتهم مفردات الحب والاعتذار...
ارتجل أنت ما تبقى  من نص الاحساس بالمعنى وإن خانك التعبير...  
لا تقلق  اسْتَدْعِ من أقاصي السماء وحياً يحفظ لك توازن قلبك وطفولته ... 
كن متسامحاً كما كنت تفعل مع اختيارات ظروفك السيئة لتواقيتها، ومع جرأة أحلامك وهي تطوف بلاد الله بجناحي فراشة، وهذا الفراغ الذي يلسع روحك بإيقاع الغياب .... 
كن متسامحاً احتراماً لفجائية "موت ما" تسري في أوردة أقدارك ..
واصبر إلى أن تنضج العاصفة في صدرك ... فالصبر حياة بعد الموت أمل وهيبة ووقار....
وكن هادئاً ، ساكناً كمعدن نبيل حتى في صعودك الحتمي نحو السماء كغمامة مثقلة بهموم الأرض وأوجاعها... 
كن متسامحا ودافئاً ... 
كن أقوى من هذا الشتاء الذي يغلف أجساد المسكونين بالحنين لشيء كان وسيكون ... 
كن سماويا كنور الصبح وهو يعيد للهواء نقاء الأبدية ليتنفس نشيدك المعطر بالندى كل حي على هذه الأرض... 
سامح...كي لا تفقد الحياة نكهتها ونفسك تشتهي البقاء على قيدها. وقل للسائرين خلف رموز حضارتهم كونوا كأبناء الخيام هم أيضا أهل حضارة لكنهم وبحكم التجربة أصبحوا أكثر نضجاً فتراهم لا يطلبون من الدنيا شيئاً سوى الحياد.. 
كن متسامحاً ... صريحاً وشفافاً ... 
كن أخطر المحاورين وأذكاهم ...
أسلحتك مهارة استماع جيّدة، قلب حيّ ولغة راقية ..
.كن شكل حُجّتك المرئي سيولد الإثبات من صدق عينيك... 
سامح وإياك أن تحزن أو تفرح بذلك، 
كن راضياً مبتسما فقط كهلالٍ يتحدى عتمة سماء رمادية...
لكن لا تنسَ أن تغازل ضميرك الحي على طريقة "موجة بحر عاشقة وقمر وحيد" عندما يأتي لزيارتك في موعده الليلي... سامح... كن أنت سيد عالمك البعيد عن كآبة هذا الواقع ... 
عكازته التي تقيه خطر السقوط من كوابيس جلاديه ...
كن الشاهد الشهيد الذي تمسك بحقه وتسامح بدمه ودموع خاصته ومحبيه.. 
كن متسامحاً.
ولا تلتفت إلى هؤلاء الذين يقفون بينك وبين سلام نفسك يحاصرون مصير نواياك ويقطعون عليها الطريق؛ فغايتك هي أن لا تَفنى في متاهات الإنتقام والألم والحيرة وأن تتمكن من لملمة شظايا من سقطوا دون أن تتأذى أو تُجْرَح .. 
سامح ولا تتحرج أو تتردد إن لم يسعفك النسيان فمن منا استطاع تجاوز وصف الجرح في أعماق اللاشعور ومنعه من الانتشار في الذاكرة كلما دق بابه ألم مفاجئ... 
واعلم... 
أن زماناً امتلأ بأسباب الصراع والفوضى ليس زمانك!!
 لكن زمانك لا نهاية له وهو آتٍ. 
وقد يراك البعض في صمتك الكبير مجرد طفل حالم يلهو مع خيالات السنابل !! 
لكن حصادك الجميل حقيقي وهو قادم...
أو قد يصفونك بأنك فكرة طوباويّة تحترق في فجوة من الاحتمالات والمشاعر المتناقضة مع الآخرين!! 
لكن أسوار تسامحك العالية ستصبح للسائلين من بَعْدِكَ تاريخا تطلع من شرقه شمس الجواب ... 
كن متسامحاً لأجلك أنت... 
لأجل كل عاطفةٍ صاغت لك لحن يومك على أوتار العطاء والتضحية...
 لأجل كل قلبٍ سكنت فيه وكان سقفه من سحاب...
 لأجل كل فكرٍ يهتم بك، ويحتفل بقدومك ، ويرافق خطواتك دون أن يلقي بالاً لمفاجآت وعثرات الطريق ... 
كن متسامحاُ لتتسع الأرض لنا أكثر، وتحتمل صفاتنا واختلافاتنا وتنوعنا ...
 ولتداوي خلال دورانها المهيب جراح الأمس باليوم.. 
وتصنع باستدارتها الأنيقة من تضاريس المكان ملجأ آمناً للضوء. 
ولتبقى أطياف الفصول تجمّل لنا وجه الحياة على مدّ البصر وأكثر .

السبت، 9 يناير 2016

حوار الحرية أنا والآخر


أنا : يقولون: أنّه حتى تعيش حرًا يجب أن تضحي بسعادتك ؟
كيف يمكننا تصور شكل هذه الحرية التي ستغلق في وجوهنا أبواب السعادة ؟
-الآخر : في البدايةِ أولًا، يجب علينا أن نوضح مفهوم الحرية لكي ندرك دورها وعلاقتها بالسعادة.
-أنا: الحرية هي أن نتحلى بالإيجابية والشجاعة الكافية؛ لنكون مسؤولين عن أقوالنا وأفعالنا.
اعتمادًا على الوعي بكل ما يجوز لنا فعله وما لا يجوز...
أما السّعادة هي أن تكون حرًا في إطار عالم القيم والمبادئ التي تتخذها لنفسك دون إجبارٍ أو إكراه . 
- باختصار- أنا أرى أن الشخصية السعيدة هي التي تمكنت بفعل الإرادة من تحرير نفسها من أثقال الصدمات والخيبات والألام ...
-الآخر: بنظري السعادة، هي حالةِ التجارب التي نقدم عليها، دونما وضع حدودٍ ومتاريس على عقولنا وفكرنا، وعدم الاهتمام أو المبالغة في مشاعر القلق والتوتر لما هو قادم ، فالسعادة هي أن نعيش اللحظة دون أن نُحَمِّل أنفسنا هموم الغد وأعباء الماضي!!
أمَّا الحرية فهي القدرة على الاختيار والانطلاق بما يكفي للخروجِ من حالة الجمود والموت الذي يكتنف حياة الناس الذين ظنوا أنّ الحرية بابٌ محرَّم فتحه، أو الخوض فيه..
-أنا: قوانين الطبيعة ، الضوابط الأخلاقية والدينية والقانونية، الفكر المجتمعي السائد، السُلطة أيًّا كان نوعها وشَكلها، الظروف المحيطة بنا، العادات والتقاليد، طبيعة الجسد ورغباته كلها عوامل تحدّ من حرية الإنسان. 
لكن ألا تتفق معي أنّ من البديهي القول بأن الحرية المطلقة لا وجود لها فالإنسان كائن اجتماعي وهو يختلف عن باقي الكائنات بأنّه الوحيد القادر على تنظيم هياكل اجتماعية مع غيره من الأفراد باستخدام نظم التواصل والتعبير عن الذات وتبادل الأفكار والمفاهيم، وهذا يتطلب فرض ضوابط على الحريات الفردية كي لا يصل الأمر بالبشر في النهاية إلى عالم متصارع يضج بالخلافات والصدامات.
-الآخر: أتفق معك تمامًا بأن الهدف من وجود هذه الضوابط هو حماية الحقوق والحريات وتنظيمها بحيث لا تتعدى واحدة على الأخرى...
لكن أحب أن أضيف على ما قلته أنّ هذه الحدود والضوابط لتكون إنسانية، ومنطقية، وعادلة، يجب عليها أن لا تتعارض مع الغاية من وجود الحرية، والتي تتمثل باعطاء الحق لكل إنسان في التعبير عن ذاته، وتقديم اضافته ومساهمته النابعة من فكره الحرّ وشخصيته المميزة في بناء مجتمعه الذي هو جزء منه.
واذا أردنا أن نكون عادلين، فهذا يعني أنه لا يمكن لنا أن نصدر حكمًا أو وصفًا على أقوال وأفعال الآخرين دون أن تكون صادرة من إرادة حرّة..
ولاحظي معي أن الكثير من سلوكيات وتصرفات البشر قد تكون في الحقيقة عبارة عن ردود أفعال أو نتيجة وقوعهم تحت الضغط والتأثير، وهنا بالذات يظهر مدى فهم الإنسان لحريته وحرية الآخرين ..
-أنا : لكن عادة ما يصنع الناس تابوهاتٍ جامدة؛ تابوهات لا تستند على أمر فيه خير أو منفعة وللأسف نظن أنها دستور الحياة الذي لا يَجب أن ينتهك أو يكسَر!!
-الآخر : هذا الوهم بعينه .. 
والبعض كما قلتِ يخشى كَسر هذهِ التابوهات فتتحول هذه إلى قوانين مُلزمة تتوارثها الأجيال.
من رضي على نفسه ذلك؛ فهو يستحق أن لا يكون سعيدًا أو حرًا !
طالما كان الانسان مؤمنًا بذاته فلن يجعل لهذه التابوهات مكاناً في حياته... بل يجب عليه أن يفتح كلَّ الأبوابِ المغلقة؛ فالفكرة والنهج قد يبتدعه شخصٌ واحد ولن يشكل بالضرورة الرأي المخالف عائقا أمامه.
-أنا : كثيرون هم من وهبوا حياتهم وأعوامهم للحرية ... 
بحثًا أو دفاعًا عنها ... 
وبالتأكيد لم يكونوا غارقين في غفلتهم السعيدة عن مكوّن أصيل في ذواتهم "الحرية" بل كانوا أحرارًا بما فيه الكفاية لاتخاذ قرار المواجهة. 
ومن العدل والإنصاف أن نقول بأن نضالهم في سبيلها هو من أعطى للحرية المعنى الذي تستحقه كما هي الحرية بارعة أيضا في إضفاء قيمتها على كل شيءٍ في حياتنا.
-الآخر : أتعلمين أمرًا ؟ 
بابُ التخييرِ بين الحرية والسعادةِ غير منطقي وغير مطروح أساساً ، ولَيس لأحد على ذلك سلطة. فمن حريتي تأتي سعادتي .
-أنا: صحيح، ومن حريتك ستأتي حريتي وسعادتي أيضا.

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...