بين البراغماتية والواقعية السياسية: حين تكون المصلحة قدر السياسة
لم تعد "البراغماتية" مجرّد مقاربة تتقاطع مع الواقعية السياسية التي تضع القوة والمصلحة فوق المبادئ، إذ تجاوزتها إلى نهجٍ يعيد صياغة الأولويات وفق ما هو عملي وفعّال، وفي هذا السياق، قد يتم تهميش بعض الثوابت أو يُعادُ تأويلها بما يتوافق مع مقتضيات المصلحة أو المنفعة.
على سبيل المثال: في العلاقات الدولية، لا يشمل مفهوم "العدو" بالضرورة كل من لا ينتمي إلى "نحن"، ولا من صوَّرته السرديات كعدو تاريخي جوهري.
وبالتالي، إن لم يكن "العداء" دائمًا وليد خصومة ثابتة، فإن "التحالف" بدوره لا يعني حتمًا صداقة، ولا يستند غالبًا إلى ولاء راسخ للمبادئ أو القيم المشتركة بين دولتين أو أكثر...
إذ قد يكون مجرد اتفاقٍ ظرفي، تحركه مصلحة مشتركة في مواجهة تهديد معيّن. وما إن يزول هذا التهديد، حتى يتحول الحليف إلى خصم. وتتبدل المواقع، وتعاد صياغة المواقف كما لو أنها لم تكن.
وهذه ليست حالة استثنائية، بل نمط يعيد نفسه مرارًا في التاريخ المعاصر، حيث لا تكون ثنائيات الخير والشر، العَدو والصديق، أكثر من انعكاساتٍ لعلاقاتٍ هشة تحكمها المصالح الآنية ..
خلال الحرب العالمية الثانية، اجتمعت قوى الحلفاء تحت قيادة بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. لكن ما إن انتهت الحرب، وزال الخطر المشترك، حتى تفكك ذلك التحالف وانقسم العالم بين أكبر قوتين عالميتين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ لتبدأ الحرب الباردة التي أعادت رسم موازين القوى في العالم على أسس سياسية وأيديولوجية..
بهذا تكشف السياسة الدولية عن وجهها الأكثر براغماتية وحداثة، متجاوزة المفاهيم السياسية التقليدية، فهي لا تكتفي بقراءة الواقع كما هو، بل توظفه كأداة لتحقيق أهدافها، حتى وإن استدعى الأمر تجاوز الخطاب القيمي المعلن، أو التراجع عن مواقف سابقة.
إذ وفق المنطق العملياتي، فإن الفعل السياسي يُقيَّم بناءً على أثره وفعاليته في تحقيق الأهداف، لا بما تقرره النظريات المجردة. ويظهر هذا النهج بوضوح في مثال التعاون التجاري بين الغرب والصين رغم الخلافات بينهما حول قضايا تتعلق بحقوق الإنسان.
حيث تغلبت المصالح الاقتصادية هنا على القيم في رسم العلاقات بين الطرفين.
لكن تقلبات التحالفات والعداوات لا تنبع فقط من تبدل المصالح، بل أيضًا من حالة عدم اليقين التي تكتنف المشهد السياسي العالمي.
فعندما يسوده التعقيد والغموض، وتغيب الحقائق القاطعة، فإن الدول في خضم ذلك المناخ الضبابي لا تتصرف بناءً على معطياتٍ راسخة أو ضماناتٍ نهائية، وإنما وفق ترجيحات ظرفية وسيناريوهات متقلبة تعتمد على قراءات آنية تتغير بتغير السياق السياسي...
لذا لا يبدو تحول الاصطفافات أمرًا مستغربًا، فهو في حقيقته انعكاس طبيعي لقلق مستمر مما قد يتربص بالقوى الفاعلة والمتفاعلة من تهديدات وتحديات متجددة...
فلا ثباتَ في العلاقات الدولية، ولا نتائج مضمونة...
لا تحالفٌ دائم ولا عداوةٌ مطلقة... كأمواج بحرٍ مضطرب، تطفو وتتأرجح عليها القوى المتصارعة أو المتنافسة، وسط تحولات تُعيد رسم المشهد السياسي العالمي، كما تمليه رياحُ الغايات والمكاسب، وسحب المخاطر المحتملة، المتراكمة بالمخاوف.
تعليقات
إرسال تعليق