الأربعاء، 17 مايو 2023

في مسارات الذّاكرة المنسيّة


 

رغم أنَّه لا توجد صفة التصقتْ بنا أَكثر من النِّسيان، إلَّا أنَّ النَّفس لا تَفْقِد شيئًا من مضمونها، حيث تبقى الخبرات والتَّجارب والرَّغبات والعواطف المنسيَّة موجودة ومحفوظة في ذاكرتنا اللَّاشعُوريَّة. 

وما تلك الانفعالات والمشاعر الَّتي تُباغتُنا بين الحين والآخر دون أَنْ نجد لها تبريرًا معقولاً أَو سببًا مفهومًا، والصُّور الذِّهنيَّة الَّتي ترتسم في مخيِّلتنا أثناء النَّوم "الأَحلام" إِلَّا نبضات تلك الحياة المختبئة في أَعماق عقلنا الباطن.
وكأَنَّها إِشاراتٌ تُومئ لنا لِنستَدِلَّ بها على مسارات ذاكرتنا المنسيَّة؛ فنحظى ولو بالقليل من معرفة الفعَّاليَّات الَّتي تنْشُط بها أدمغتنا دون مستوى إدراكنا الواعي.

والواقع أنَّ اللَّاوعي، هذا الجزء الأساسيِّ والحيويِّ من التَّفكير والشَّخصيَّة الإنسانيَّة، ينتمي إِلى تلك المفاهيم التي لا يمكن إِيجاد تعريف دقيق وشامل وموحد لها.
إِذ أَننا نتحدَّث هنا عن عمليَّات عقلية لا يمكن ملاحظتها وقياسها إلا من خلال تأثيراتها، ورصد الاستجابات الَّتي تظهر على السّلوك والأداء عند التَّعرُّض لمحفِّزاتٍ محدَّدة.
هذا عدا تباين شخصيَّات الأفراد، واختلاف ميولهم، ورغباتهم وانْطباعاتهم، فما يتمُّ تأكيده لحالة معيَّنة قد لا يتَّفق أو يتناقض مع باقي الحالات النَّفسيَّة.
كذلك طبيعة النَّشاط الذهني اللَّاشعوريِّ الذي يتمّ بشكل تلقائيّ.
والتَّدفُّق الدَّائم والمتجدِّد والسَّريع للمعلومات، والذي يجعل محتويات اللَّاشعور متداخلة ومتغيِّرة ومتحوِّلة باستمرار.
وفي ذلك كمٌ من الضَّبابيَّة والتَّشويش ما يُعْجِز الوعي العاديِّ "اليومي" عن الوصول إليها بشكلٍ مباشر.
تمَّ اِعتبار اللَّاوعي مفهوما أَساسيًا في علم النَّفس على يد طبيب الأعصاب النِّمْساويّ "سيجموند فرويد"، حيث اعتمده في فهم العلل النَّفسيَّة، ومن ثمَّ في طريقته العلاجيَّة القائمة على تحليل السُّلوك الإنسانيّ، واستنتاج دوافعه الخفِية من رغبات وتجارب وخبرات وصدمات.
فاللَّاوعي كما يراه فرويد يلعب دورًا مهيمنًا فِي الحياة العقليَّة، وهو الَّذي يَكْشِف المعنى والتَّرابط الحتميّ الكامن فِي الأحداث الّتي تبدو في ظاهرها عشوائيَّة وغير مترابطة مثل الأحلام، وزلَّات اللِّسان، والأَخطاء العفويَّة.
لكن وبينما يؤكِّد فرويد على الطَّبيعة الشَّخصيَّة أو الفرديَّة للاوعي، وبأَنَّه صوت الماضي الَّذيََ يمارس سطوته على حاضر تفكيرنا، وعواطفنا، وسلوكياتنا من مخبئِه السِّرِّيّ حيث تنزوي الأفكار المهجورة والمشاعر والرّغبات المكبوتة بفعل القمع.
فإِن اللَّاوعي كما يَرَاه عَالِم النَّفس السّويسريّ "كارل يونغ" في كتابه الشَّائق (جدليَّة الأنَا واللَّاوعي) لا يقتصر على المحتويات المكبوتة فقط؛ وإِنّما أيضًا على كلِّ المواد النَّفسيَّة الموجودة التي لم تكتسب بعد مستوى ومرتبة الوعي؛ أيَّ بذور المحتويات التي ستصبح لاحقًا واعية.
فاللَّاوعي يحتوي على خليط من العناصر السَّلبيَّة والإيجابيَّة.
حيث يظهر جانبه السّلبي في الاضطربات العاطفيَّة والمشاكل والصِّراعات النَّفْسيَّة التي هي في الواقع ليست إِلَّا نتيجة عدم فهم محتويات ذلك الجزء مِن ذواتنا وإهمال معالجتها بشكلٍ واعٍ. 

بالمقابل ومن منظورٍ إِيجابيٍّ فإِن استكشاف اللَّاوعي، وتحليل أحواله وتأْثيراته يساعد الفرد فِي تطوير شخصيَّته، والوصول إِلى مستويات من النُّموّ الرُّوحيِّ أَكثر اكتمالاً ونضجًا.
حيث يركِّز يونغ على الأحلام التي نستطيع من خلال تحليلها ودراسة دلالاتها أن ندرك فعَّاليَّات اللَّاوعي وصيرورته التَّطوُّريَّة التي لا شكَّ أَنَّها تتَّجِه نحو غاية، كما هو كلّ شيءٍ في الحياة يتَّجه نحو غاية ما، فاللَّاوعي دائمًا منشغل بخلط محتوياته وإعادة تجميعها، وتلك الفعَّاليَّات وإن كانت تحدث بعيدًا عن تحكُّمات الأنا (الشّخصية الواعية)، إلّا أنّها ليست في حالة انقطاع عنها، ولا هي مستقلة تمامًا، وحال غير هذا الحال سيكون علامة مرض.
لذا لا يمكن اعتبار الأحلام نشاطًا عديم الجدوى وبلا هدف.
وهي دائمًا ما تتقدم قليلاً بما تتضمنه من أفكار جديدة عن وعي الحالم.
وكونها تحدث بصورة تلقائية فإنّ هذا يكسبنا فهمًا موضوعيًّا أعمق لمحتويات أعماقنا المنسيّة، فهي نظامٌ ذاتي يعمل على تنظيم المحتويات والمشاعر المكبوتة، وإعادتها إلى مسار طبيعي وصحيح يتوافق مع الشّخصيّة الحقيقية للحالم.
وهنا لا بدَّ من التَّوقُّف قليلاً عند "اللَّاوعي الجمعيّ" وهو مفهومٌ يحمل فكرةً لافتة جدًّا، ومثيرة للجدل، اجترحه "كارل يونغ" مؤسِّس علم النَّفس التَّحليليِّ فِي مَعْرِض اختلافه مع زميله "فرويد" حول بعض مفاهيمه وأفكاره التي اختزلت كافَّة اَلدَّوافع الإنسانيّة في الغرائز الفطريَّة للذَّات اَلدُّنْيَا "الهو"، وَنَحت جانبًا تأثير عوامل الثَّقافة والتَّربية والبيئة والجينات الوراثيَّة على الشَّخصِيَّة.
حيث اعتبر كارل يونغ أَنَّ النَّفس البشريَّة تتكوَّن من ثلاثة أَجزاء:  الأنا، التي يحددها يونغ بالعقل الواعي، وهو المسؤول عن إحساسنا المستمر بالهوية طوال حياتنا، واللاوعي الشَّخصِيّ، واللَّاوعي الجمعيّ.
وهذا الأخير هو شكلٌ متَميِّز عن اَللَّاوعي الشَّخصيِّ، حيث يقرِّر فيه أَنَّ البشر يرثون إلى جانب الخصائص الفسيولوجيَّة، أنواعًا وأَنماطًا لاواعية من التَّجارب والخبرات البشريَّة المشتركة التي يتمُّ ترميزها في اَلذَّاكرة منذ الولادة، أَيْ أَنَّها فطريَّة، حيث تثير تلك اَلنَّماذج الأصليَّة (Archetypes) والصُّور البدئيَّة التي تظهر تحت أَشكالٍ مختلفة في حياتنا ردود أَفعالٍ متشابهة لدى أفراد الجنس البشريِّ، وذلك على اختلاف الزَّمان والمكان، وفي جميع الثَّقافات.
وغالبًا ما تتجلَّى تعبيرات تلك النماذج الأصلية من الرُّمُوز والصُّور والشَّخصيَّات والأحداث العالميّة المشتركة في الأحلام والفنون والأدب والسُّلوك الجماعيّ للمجتمعات.
ومنها على سبيل المثال: صورة "الأَب" والَّذي يُمَثِّل السُّلطة والحماية، "الأمُّ" التي تُمثِّل الرِّعاية والعناية، أَيْضًا "البطل" الّذي نشاهده في الأساطير والحكايات الشعبيَّة رمزًا للشّجاعة والانتصار على الصِّعاب.
وهناك المخادع الذي يمثّله غالبًا مهرج أو ساحر. ويتحدد دوره في إعاقة تقدم البطل وإثارة المتاعب له،  و"الرَّجل العجوز" الَّذي يمثِّلُ الحكمة والخبرة.
إن النماذج الأصلية ميلٌ غير مكتسب لتجربة الشيء بطريقة معينة، لذا تستقر الحالة النفسية للفرد كلّما كان النمط البدائي الذي يحمله في لاوعيه منسجمًا ومتطابقًا مع صورته الفعلية التي تمثله في الواقع. 
ولأَنَّ تلك الأَنماط والرُّموز وَالشَّخصيَّات والأحداث والصُّور الآتية من أَعماق التَّجربة الإنسانيّة ستتفاعل حتمًا مع المحتويات الفرديَّة، بل وستلعب دورًا أَساسيًّا في تَطَوُّر الشَّخْصِيَّة وتوجِيه سلوكها الحاليّ، في أبعادٍ يصبح فيها ماضينا البدائيَّ حجر زاويةٍ في تكويننا النَّفْسيّ.
فإنّ هذا يستلْزم بالطَّبع بداية، فهم تلك النَّماذج والرّموز اللَّاواعية، ثُمَّ دمجها مع وعي الفرد بصورة صحيحة لغاية تحقيق التَّكامل والتَّوازن والاستقرار النَّفسيِّ والعاطفيِّ والاجتماعيِّ للذَّات.

لذا قام يونغ بتحديد أربعة نماذج أصليَّة رئيسيَّة، تمثِّل رحلة النّفس، من حالة اللّاوعي إلى مرحلة تحقيق التَّفَرُّد أو الإدراك الكامل للذّات.
١- (الظّل): الجانب المظلم من الذّات حيث تكون الأفكار والعواطف والسّلوكيّات التي لا تريد الأنا الواعية الاعتراف بها أو التعبير عنها بشكلٍ علني؛ فتبقى قابعة في الظّل.
٢- الأنيما: وهي(روح الجانب الأنثويّ المكبوت في نفسيّة الرّجل) .
والأنيموس: وهو (روح الجانب الذَّكريّ المكبوت في نفسيّة المرأة).
حيث تؤثر تلك الصّور والأنماط والصّفات التي تمثّل المرأة المثالية في الرّجل الآنيما، والرّجل المثالي في المرآة الآنيموس، على الاختيارات العاطفيّة لكلّ منهما، وتفهمه لطبيعة الآخر.
٣- الشّخصية: الجزء غير الواعي الذي يعتمده الفرد لتشكيل صورته الخارجية أمام الآخرين..
والطّريقة التي يقدم بها نفسه إلى العالم بالتوافق مع توقُّعات المجتمع ومعاييره، وتجارب الشخص واحتياجاته في الحياة، وظروفه الاجتماعية والثقافية؛
فالشخصية هي قناع للعقل الجماعي، وليست الذّات الحقيقية للفرد، لكنها صورة معادية للظلّ.
٤- لتأتي أخيرًا الذات: وهي مركز الشخصية، والكلّ الذي يشمل جميع ما سبق، والمرحلة النِّهائيَّة من تطوّر النّفس "التَّفرُّد" والذي يعني تجريد الذّات من الأغلفة الزائفة للشخصية، وتحريرها من سطوة القوّة الإيحائيّة للصور البدائيّة.
والذّات على حد تعبير يونغ هي "الإنسان الكليّ الخالد الذي يمثّل التّكامل المتبادل بين الوعي واللّاوعي.
إِنَّ ذاكرتنا اللّاواعية قوَّة جبَّارة تعمل باستمرار، بل إنّ معظم معالجة المعلومات تتمّ من خلالها لأسباب تتعلق بالكفاءة.
تلك الكلمة التي ستأخذنا الآن إلى أحد أهم اهتمامات علم النفس المعرفي وهو الدور الذي تقوم به الذَّاكرة الإجرائيَّة طويلة المدى التي تعتبر فرعًا من الذّاكرة الضّمنيّة غير الواعية، في عمليتي التَّعَلُّم والتَّدريب، على وجه التَّحديد: العادات الحركية، والمهارات التي اكتسبناها عن طريق التّكرار والتّدريب المستمر على فعل أو نشاط معين..
بحيث يصبح بإمكاننا القيام به وانجازة بصورة آليّة أو تلقائيّة، دون أن يتطلب الأمر أيَّ تَدخُّل واعٍ منّا، أو استهلاك الكثير من التّفكير والانتباه.
وصولًا إلى اللَّاواعي التَّكيُّفيِّ الذي يُمكِّن العقل من معالجة المعلومات والتفكير بكيفِيَّة التَّصرُّف بسرعة كبيرة بطرق تحفظ وتغزز بقاء الكائن الحي عند التعرض لخطر مفاجئ أو حين حدوث تغير حاد في نمط البيئة المحيطة به.
وعمومًا يُمكن القول: بأنّه كلّما تمّ تكوين مفهوم برؤية أكثر تماسكًا، وقربًا من المنطق والعقلانية، يجرِّد اللّاوعي من لقب "وحش الأعماق" المتحكّم المطلق بالنّفس، والمصدر الأساسي للسلوك البشري.
فإن هذا يعني بالمقابل إِمكانيَّة وصول وتواصل أكبر يتيح للوعي اكتساب قدرٍ أكبر من البصيرة والفهم، وإعطاء دورٍ أكثر فاعلية لِلتَّفكير التَّحليليِّ المنطقيّ في إدارة الذّات..
وهو أمرٌ إيجابي بكل تأكيد وفي منتهى الأهمية؛ حيث أنّ اللّاوعي وأن كان يتفوَّق على العقل الواعي بالسّرعة والكفاءة في معالجته للمعلومات إلا أنّه أكثر عرضة للوقوع في ما يسمى بالتحيّز الضمنيّ (Implicit bias) وهي القوالب النَّمطيَّة والمعتقدات والمواقف والأحكام المسبقة التي يحملها الأفراد في عقولهم ويستخدمونها دون وعي ضد مجموعات معينة من النَّاس، وكثيرًا ما تَتَعارَض هذه التَّحيّزات مع القيم الواعية للفرد، منها على سبيل المثال: التَّحيُّز الجنسي، العرقيَّ، الدِّينيَّ، والاجتماعيَّ.
كذلك التَّأثُّر الأعمى بالأحداث اليومية، والأساليب الاقناعيّة والدّعائيّة التي تستهدف وتخاطب عاطفة المتلَّقي ورغباته الدّفينة للحصول على استجابة عاطفية، أو خلق انطباعٍ غير واقعي يماثل مقدار المبالغة والتهويل في المادّة الدّعائيّة.
فما أجمل أن ينصفنا النّسيان هنا بما يُجدي، فلا نعوذ نذكر أيًا منها!!.
ومؤكَّد أَنِّي لا أقصد ذلك النّسيان الذي يحدث نتيجة لخلل عضوي او نفسي؛ لأنه من أسوأ التجارب التي يمكن أن نمر بها، خاصّة عندما يؤثر سلبًا على قدرتنا على التعلم وانجاز المهام اليومية.
لكني أقصد النسيان الذي يعتبره العلم الحديث وظيفة من وظائف الذاكرة "الفلترة"؛ والذي هو بكلّ تأكيد نعمة تفوق كلّ تقدير.
فالجزء ما قبل الواعي من العقل قد يتناسى بعض المعلومات لأنها عديمة الفائدة والأهمية، أو يستبعد عمدًا الذّكريات المزعجة والمؤلمة، من أجل تجنب المشاعر السّلبية المرتبطة بها فلا يخرجها إلى المستوى الواعي.
ومن مدهشات النّسيان وأحواله أيضًا، عندما يصعب علينا اتخاذ قرار ما، ونقع في دوّامة الحيرة والتَّردُّد، رغم أهمية الموضوع بالنسبة لنا، وشدّة التّركيز عليه، واستمراريّة التّفكير بشأنه وذلك إلى درجة نشعر فيها بالفعل أن هناك ما يحول دون الوصول إلى نقطة حاسمة تتنهي إليها محاولاتنا في تحديد الأنسب والأصلح.
وهذا يحدث إمّا بسبب الغموض، أو التّشويش، أو الضّغط النفسي والعاطفي، أو نقص بالمعلومات، فيتم تعويض ذلك بعفويّة وتلقائيّة، وعلى الأغلب بصورة مفاجئة، وفي ظروف غير متوقعة، ومعالجة غير واعية للمعلومات؛ ليكون الناتج أخيرًا قرارات وحلول قد تبدو لنا للوهلة الأولى غير مؤكدة، لكن إذا ما أخذناها على محمل الجد، وأمعنا فيها النظر في ضوء ما نعرفه ونتذكره؛ سنكتشف كم هي صائبة ومبتكرة وابداعيّة إلى أبعد حدّ متخيَّل..
وكأن هناك قوّة خفيّة انتزعتها لنا انتزاعًا من مجاهل النّسيان، وأزالت عنها حُجب الأوهام والتفاصيل المرهقة..
إنّها ببساطة قوّة الحدس!.

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...