محاولة في أصل اللغات جان جاك روسو


محاولة في أصل اللغات
جان جاك روسو إن أول اختراع للكلام ليس ناتجاً عن الحاجات ذلك أن المفعول الطبيعي للحاجات هو تفريق الناس لا تقريب بعضهم إلى بعض.
ومن غير المعقول أن يكون ما يفرق بينهم هو ما يجمعهم ..
إن أول اختراع للكلام كان ناتجاً عن الأهواء .
إن عبقرية اللغات الشرقية وهي أقدم ما هو معروف لدينا من اللغات تكذب تكذيباً مطلقاً ما نتخيله عن تكونها كتدرّج في التعلم.
فليست هذه اللغات من المنهج والمعقول في شيء بل هي حية ومجازية في الوقت الذي يراد به اقناعنا بأن لغات الأولين هي لغات هندسيين في حين نرى أنها لغات شعراء.
فالأهواء تقرب الناس الذين تجبرهم ضرورة البحث عن العيش على التباعد فلا الجوع ولا العطش انتزعا أول التصويتات بل الحب والكرة والشفقة والغضب ..
إنّ الثمار لا تفلت من أيدينا،فيمكننا أن نتغذّى بها من غير كلام، كما أنّنا في صمت نطارد الفريسة التي نقتاتها.ولكن،اذا ما أردنا التأثير في قلب شاب،أو صدّ معتد أثيم،فانّ الطبيعة تملي علينا نبرات وصرخات و أنّات.
تلك هي أقدم اللغات المخترعة وذلك هو ما جعل اللغات الأولى شادية وعاطفية قبل أن تكون بسيطة ومنهجية.

_______________

لابدّ أن اللغة الأولى كانت مجازية لما كانت الأسباب الأولى التي دفعت الإنسان إلى التكلم هي العواطف فيما كانت تعابيرها الأولى عبارة عن استعارات وهذا يعني أن الأشياء لم تسمّ بأسمائها الحقيقية إلا عندما تمت رؤيتها بشكل حقيقي!
ففي البداية لم يتكلم الناس إلا شعراً ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلا بعد زمنٍ طويل!
والسؤال :
كيف يكون التعبير مجازياً قبل أن تكون له دلالة حقيقية إذ المجاز يكون في تحول المعنى .

غير أنه يجب للفهم أن تعوض الكلمة التي ننقلها بالفكرة التي تقدمها العاطفة .
فإننا لا ننقل الكلمات إلا لأننا ننقل الأفكار فلو لم يكن ذلك لما كانت اللغة المجازية تعني شيئاً .
إن الكيفية التي يتولد بها المجاز قبل الحقيقة هي في الكلمات والأسماء التي نخترعها للتعبير عن الصورة الوهمية التي يقدمها الهوى.
________________

لست أشك أبداً في أن أولى اللغات لو أنها ما زالت حية لظلت بقطع النظر على مفراداتها وقواعد تركيبها إن تلك الأصوات البسيطة هي أصوات غير متمفصلة فالتمفصلات قليلة العدد ولكن عدد الأصوات والنبرات غير محدود.
ولما كانت التصويتات الطبيعية تلك شديدة التنوع غير متمفصلة فإن الكلمات ستكون في تلك اللغة قليلة التمفصل فبضعة من الحروف الصوامت إذ تتخلل تلك التصويتات معمرة بذلك فجوتها يكفي لجعلها سلسة سهلة النطق.
إن أغلب الكلمات الجذرية ستكوّن أصواتاً تحاكي نبرة الأهواء أو مفعول الأشياء الحسية فتظهر فيها الحاكية الحسية باستمرار وسيكون لهذه اللغة الكثير من المترادفات للتعبير عن الشيء نفسه في نسبه المختلفة والقليل من الصيغ الظرفية والكلمات المجردة للتعبير عن النسب عينها.
وافراط في التناسب النحوي لتتمسك بعذوبة الصوت والعدد والتناغم وجمال الأصوات.
_______________________

بقدر ما تزداد رتابة التصويتات, تتضاعف الحروف الصوامت, وبقدر ما تنمو الحاجات وتتعقد الأعمال وتمتد الأنوار تغير اللغة من طابعها فتصبح أشد معقولية وأقل عاطفية وتعوض المشاعر بالأفكار.
فتنطفئ النبرة وتتعدد المقاطع .
وبقدر ما تكون الكتابة خشنة بقدر ما تكون اللغة قديمة :
إن الأسلوب الأول في الكتابة لم يكن رسم الأصوات ولكن رسم الأشياء نفسها إما بشكل مباشر كما كان يفعل المكسيكيون أو بشكل غير مباشر كالكتابة المصرية القديمة.
أما الأسلوب الثاني يتكون بتمثيل الكلمات والقضايا بأحرف اصطلاحية, وهو ما لايمكن انجازة إلا عندما تبلغ اللغة كمالها وعندما يتحد شعبٌ برمته في ظل قوانين مشتركة.
والأسلوب الثالث يتكون من تقطيع الصوت المتكلم إلى عدد معين من الأجزاء التصويتية والتمفصلية وهذا هو أسلوبنا ، أسلوب شعوب تشتغل بالتجارة اضطرتها كونها تخاطب ثقافات مختلفة إلى التكلم بعدة لغات تحتوى على حروف مشتركة مع تلك الثقافات .
وهذه يعني أن فن الكتابة لا يتبع فن الكلام أصلاً.

إن الكتابة التي يبدو من مهماتها تثبيت اللغة هي عينها التي تغيرها أي تغير عبقريتها حيث يعوض التعبير بالدقة.
والمرء يؤدي مشاعره حين يتكلم وأفكارة عندما يكتب. وإذا أضحى كل شيءٍ يقوله كما لو كان يكتبه لم يعد إلا قارئاً يتكلم.
___________________
إن الأمة بقدر ما تقرأ وتتعلم تذوب لهجاتها فلا تبقى في الأخير إلا في شكل رطانة لدى الجمهور الذي يقرأ قليلاً ولا يكتب أصلاً..
__________________
عندما تفقد اللغة رنتها لا بد من ضبطها بالنقط والعلامات وهذا لا يترتب عليه ضبط للنطق فقط ولكن معاني جديدة..
_________________
عندما تكون اللغة أوضح برسمها مما هي بنطقها فتلك شهادة على أنها مكتوبة أكثر مما هي منطوقة ولعل لغة علماء المصريين كانت على هذه الحالة كذلك اللغات الميتة بالنسبة لنا.
أما اللغات التي تشحن ما لايلزم من الصوامت فهذا يدل على أن الكتابة سابقة عليها وهي أبرد اللغات كلها.
____________
إن الخوف والضعف هما أصل القساوة، فلا تنمو الأهواء الإجتماعية فينا إلا بقدر استنارتنا وانتقالنا وتماهينا خارج أنفسنا.
_________________
فإذا ما سعيتم إلى تحديد الأماكن التي ولد فيها الجنس البشري ونشأت فيها الشعوب الأولى، فإنكم لن تنطقوا بأسماء المناخات المعتدلة ...
إن التجمعات البشرية هي في الغالب عمل الطوارئ الطبيعية وتداول الفصول، حيث تتحول مصائب الأرض إلى أدوات تحمل البشر على التقارب.

__________________
إن سيطرة الموسيقى على أرواحنا ليست أبداً من عمل الأصوات، فإن ألواناً جميلة ومحكمة التدرج تروق للنظر لكنها في الحقيقة لا تتجاوز نقطة الإحساس
فالتصوير والمحكاة هما الذان يعطيان هذه الألوان روحاً وحياة.
________________
إن فعل النغم في الموسيقى هو عين فعل التصوير في الرسم .
وكل علامات العواطف الصوتية من اختصاصه فهو يحاكي نبرات اللغة والتراكيب التي تناسب في كل لسان مع حركات معينة للنفس.
إن النغم لا يحاكي فقط ولكنه يتكلم ولغته لا مقاطع فيها . لغة حية،حارة، ومتلهفة. فيها من الطاقة مائة مرة أكثر من الكلمة نفسها.

_____________
إنه لإمتيازٌ كبير يتمتع به الموسيقيّ، أن يقدر على تصوير أشياء لا يمكن أن نسمعها، في حين يتعذر على الرسام أن يصور تلك التي لا يمكن أن نبصرها.
وإن أكبر آيات فنٍ لا يستمد تأثيره إلا من الحركة وهو الموسيقى أنه يقدر على أن يصنع من تلك الحركة صورة للسكون ، فالنوم وسكون الليل والوحدة وحتى الصمت جميعها تدخل في لوحات الموسيقى.
______________________
على قدر ما تتعدد قواعد المحاكاة كانت لغة المحاكاة تتضاءل.
إن دراسة الفلسفة وتقدم صناعة البرهان قد حرما اللغة من تلك النبرة الحارة العاطفية التي جعلتها في البداية على قدر من الفتنة.
حين استقل السيمفونيون عن الشعراء واغلقت تلك الرابطة بين اللغة والموسيقى وأضحت الموسيقى أكثر استقلالاً عن الكلمات. انقطعت عنها العجائب التي كان قد أعطتها عندما لم تكن غير نبرة الشعر وتناغمه.
ولما كان نسيان النغم وتم تحول انتباه الموسيقى كلياً نحو التصاوت وقامت التسلسلات التصاوتية بتعديل ترددات القطع، واستولت على اسم النغم ، وأصبح النسق الموسيقي نسقاً تصاوتياً صرفاً ؛ تضرر نسق كلامنا، وفقدت الموسيقى كل طاقتها، ووجدت نفسها محصورة في المفعول الحسي الصرف ؛لتعاضد الاهتزازات، محرومة مما خلفته من الآثار الأدبية عندما كانت صوت الطبيعة مرتين.
_________________
ثمة لغات تساعد على الحرية وهي اللغات الرنانة والموزونة والمتناغمة التي يمكن أن نميز ما يقال فيها من بعيد جداً..ولكني أقول أن كل لغةٍ لا يمكننا أن نبلّغ بها صوتنا إلى الجمهور المتجمّع هي لغة عبودية وليس يمكن أيّ شعب أن يضل حراً وأن يتكلم تلك اللغة في نفس الوقت..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...