الاثنين، 20 مايو 2019

في الكوميديا..

يشير مصطلح الكوميديا إلى كل عمل فني أو أدبي يحمل طابعًا ترفيهيًّا وله نهاية سعيدة ، بحيث يتميز النوع الهادف منها وهو الأكثر قرباً وجذباً للقلوب بمحتوى تهذيبي يخاطب العقول.
على الرغم من قلة المصادر التي تتحدث عن بدايات الكوميديا إلا أن النصوص التاريخية والأدبية تخبرنا أنها كانت في نشأتها وبداياتها واحدة من الطقوس الدينية التي كانت تقام في أعياد الزرع تمجيداً لديونيسوس، إله الخصب والنبيذ في العصور اليونانية القديمة؛ وذلك لجلب الفرح والبهجة إلى نفوس المحتفلين.و تلطيف الأمزجة الغاضبة وجعل الناس ينسون مشاكلهم وأزماتهم.
بينما يقدم آرسطو في كتابه النقدي "فن الشعر" مفهوماً للكوميديا نستطيع من خلاله تلمس ملامح تطورها، فيعرفها على أنها محاكاة في جزء مشين قد يكون خطأ،نقيصة، حماقة لا يبعث علي الألم والضيق للمشاهد ولا يجلب التهلكة ويحقق عنصر الفكاهة. 
ويتضح ذلك في القناع الكوميدي المثير للضحك الذي رغم ما فيه من قبحٌ وتشويه إلا أنه لا يسبب ألماً أو أذى عندما نراه.
والملاحَظ حقاً منذ استقرت الوظيفة الإجتماعية للكوميديا أو الملهاة على يد أريستوفان (450 ق.م) أحد أعظم كتّاب الملهاة اليونانية القديمة على اعتبارها صوت المواطن العادي الذي يتفاعل وينتقد ويتذمر ويحتج ويتداخل من خلالها مع واقعه الإجتماعي والسياسي والثقافي، أنها لا تتوقف فقط عند محاكاة الأفعال الأدنى من المستوى العام للمجتمع، بل هي تعالج وتستأصل تلك العيوب والأخطاء من المجتمعات.
إذ أنها تشكل من نفسها دافعاً لتجنب كل فعل قد يكون محل انتقاد وسخرية حيث تعتمد الكوميديا (الملهاة) سواء كانت مشهد تمثيلي، أغنية، خطاب أو صورة على اقتناص المظاهر المتناقضة في الأقوال والأفعال والمواقف الإنسانية، وتقديمها للمتلقي عبر المبالغة اللاذعة، وهي صحيحة ومقبولة عقلاً وذوقاً ما دمنا نتحدث عن فن يستهدف نقد الظواهر السلبية والتسلية وإثارة الضحك. 
إن سرّ القبول والتأثير الذي تحظى به الكوميديا يكمن في زخم واقعيتها ووحدتها مع المظاهر والتفاعلات الإجتماعية والسياسية... في حين أن جميع أنواع الفنون الأخرى تقريبا ذاتية التغذية وممعنة في الفردية.
أما المحاكاة الساخرة فمن المتفق عليه أنها أسلوب نقد إجتماعي، وهو لا يتأتى إلا بالجمع بين متنافرين،أي حين يكون القول مناقضاً للمعنى أو في قول شيء والمقصود غيره، وقد يتجه هذا الأسلوب إلى الذم بصيغة المدح، أوالمدح بألفاظ ظاهرها الذم.
وبتأمل مصطلحي المفارقة (paradox) والسخرية (Irony) وبالعودة إلى أصل هاتين الكلمتين يتبين الفرق بينهما على النحو التالي : فنجد أن أصل كلمة (Irony) هو الكلمة الأغريقية (ειρωνεία) التي تعني السخرية والتهكم أو صياغة وتصدير الرأي والشعور بشكل معاكس للحقيقة أما (paradox) فأصلها الكلمة الإغريقية (παρά-δοξα) وتعني ضد الرأي، أو ما هو ضد المفهوم الشائع, وقد تأتي بمعنى التناقض الظاهري.
من هنا يتضح أن السخرية أساسها مفارقة مضبوطة على إيقاع "توقع اللامتوقع".
أما مسرحها فهو وعي الناس وقدرتهم على التمييز والتفريق بين الحقائق وكذب الإدعاء والتصنع والخداع عندما يبدع الحسّ الساخر بكشفه.
يرى ديكارت أن السخرية المعتدلة النافعة التي تأخذ العيوب،وتجعلها تظهر كأمور مضحكة،دون أن نضحك نحن أنفسنا، ودون أن نبدي أي كره للأشخاص،هي ميزة من ميزات إنسان المجتمع المهذب،وهي تظهر مرح مزاجه، وطمأنينة نفسه،وحذاقة ذكائه، بمعنى أنه يعرف كيف يعطي مظهراً مسراً أو مفرحاً للأشياء التي يسخر منها. ومع أنني أتفق تمام الإتفاق مع رؤية ديكارت إلا أني أجد أنه من النادر جداً لإبداع تمت صياغته بقالب ساخر أن يتجسد فكاهة خالصة منزوعة الألم أو الحزن!
وهو ما يدفعني إلى القول بأن الأعمال الكوميدية الخالدة في ذاكرة ووجدان الناس لم تكن إلا نتاج إدراك وفهم للأبعاد التي تتفرد الكوميديا بتقديمها أثناء تعاملها مع الأحداث والسيناريوهات المأساوية والقضايا الصعبة في الوقت الذي تكتفي فيه تراجيديا الصراع بإثارة مشاعر الخوف والشفقة والبكاء..
فالكوميديا الراقية هي قراءة عميقة وذكية لتناقضات الواقع والنفس البشرية تنقلنا من حالة التضاد بين الملهاة والمأساة أو بين الضحك والبكاء إلى حتمية التقائهما وتمازجهما في الفن والحياة ...
وأخيراً قد تختلف المعايير التي تحدد نجاح الفكرة الكوميدية بإختلاف ظروف المكان والزمان، غير أنها تبقى دوما مرهونة بتحقيق عنصر المفاجأة في حبكتها، وبالغاية التي تستهدفها لتظل محتفظة بمكانتها في ميادين التعبير كقوة وقدرة واعية، عميقة المضمون وخالية من الإسفاف والتهريج.
أيّ في اهتمامها بما يكفل أن تظل دواء الروح، والسلاح الأكثر صموداً أمام مشكلات ومتاعب الحياة. 
ذلك أن أول ما ينبغي علي الكوميديا تحطيمه تحت أضراسها،هو بؤس المجتمعات، وما تعجّ به من صنوف الخلافات والخيبات .

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...