الاثنين، 14 يناير 2019

في لوحة الدنيا




في لوحة الدنيا، مدارات وخطوط لونية تقتضيها تشكيلات الروح والوجدان والفكر.
وهي إن اتفقت أخيراً على مغادرة الخيال، إلا أن الإرادة لا زالت في حالة من التشتت والارتباك!
كذلك تتأمل ريشة الرسام إمكانية كشف الخفاء، وهي واعية، عارفة، ومدركة أن في عمق كل لون احساس متسلط ،حاد المزاج، لن يسمح لها بالإختيار .
لكن يبقى لها ما يميزها، فهي ممتلئة بالطاقة، منتشية بالفهم والذوق
وفي لوحة الدنيا حيث تجتمع التناقضات والأضداد، آهات حزن ، وعبور غناء.
ونموذج متفق عليه يسكب ذاكرته على أوراق الروح آمراً ناهياً بما ينبغى .
ورقص وفرح بنسبية المعنى . ومحاولات تستهدف جذب القلوب نحو مركز الجمال.
والجمال يقين القلوب وبرهان صحتها وسعادتها.
في لوحة الدنيا حيرة رسام، لا يريد تكرار أنماط سابقة .
ورغم استهتاره بما سيأتي إلا أنه ما زال محتفظاً بخصائص غايته النبيلة في دالة لون يتمايل مع ريشته بخفة ليسألها مزيداً من الجنون كطفل يسأل أرجوحته متى سنصل إلى السماء؟
تَشُدّه مرونة صور الغموض، وتلك اللمحات الصوفية المتفردة بشكل يفرض عليه معياراً جديداً للتقدير والتفضيل والبدء برسم نفسه أولاً!
وبالفعل هذا ما كان في شأن نزعة تلقائية راودته، لو لم يباغته من أحوال الفكر ما جعله يتراجع عنها، ويتوقف عن الرسم متأملاً لوحة الدنيا ومتفكراً في خيرها وشرها وما تضمنته من معانٍ ودلالات وأبعاد.
إن اللجوء إلى ما أوجده الوعي البشري بكدح القلب والعقل في ميادين الحياة ليس غريباً على من تسكن في داخله روح فنية حالمة.
كذلك من الطبيعي أن يجد الرسام مبتغاه في خواطر الفهم والتأمل المتحررة من قيود الواقع، المليئة بالحكمة، والنابضة بالرمزية.
أخذ الرسام نفسا عميقا ثم أغمض عينيه لثوان طلباً للتركيز على موقف أكثر إيجابية، قبل أن يخاطب نفسه بقوله : حتى لو تسربلت المعرفة ثوب أوهامنا، لن أكون في لوحة الدنيا سجيناً للمادة ما دمت أخلع عليها ما أشتهي من الصفات. وأقوم بإهداء البشر أكثر الأعمال تفقهاً بمفهوم الجمال.
لكن ما يجعله حائراً حقاً هو الواقع الذي لا يكفّ عن الصراخ في رأسه : ألم تعلم بعد أيها المسكين أنه كلما زادت معرفة الرائي، اتسعت معها عين ادراكه للقبح والبشاعة، مما يقلل في النتيجة منسوب إيمانه!
توقفه الصدمة قليلاً لكنه لا يلبث أن يعود لأدوات الرسم ثانية.
عناده أشد ضراوة من أخبار شرور الصراعات المرعبة التي تطرق سمعه كل حين.
كل طرفٍ يشيّع قتلاه
وقلبه المثقل بتعقيدات التاريخ والجغرافيا لا يتسع للكلّ
يقع في حيرة رهيبة.
يقول في نفسه وقد أمسى مقتنعاً أن نيران الحروب والصراعات واقع لا مفر منه :
لم يكن الضحايا يوماً من يجعل نيرانها شاعلة، فخديعتها أنها تقتل ضعفاء الأمل لتستثني أقوياء الطمع والجشع ...
كم يلزم الأرض التي ضاقت بإختلاف ألوانها من مساحات نظيفة لتكبر في عين الكون وتصبح جديرة بالوجود الهندسي والرؤية ،وكل شيء يحيل الفكر إلى جوهر لونين يتصارعان، ويتسيدان فلسفة الحياة، وتجسدات الخوف والشجاعة والبطولة.
لون النار، تلك الثمرة المحرمة التي اكتوت بها روح الإنسان البدائي ، قدسها ، طوطمها، خوفا منها و اعترافا بأهميتها.
ولون النور، طائر الخير والمعرفة، الذي يسافر بصمت تتجمع في تدرجاته كل أنواع الحقيقة.
حتى يصل الينا معانقاً كوكبنا بأطيافه السماوية، فتحمله لأجسادنا روح الحياة الساكنة كل ذرة ، كل نبضة .
وأمام تلك المفارقة العجيبة التي تجسدها طبيعة متكيفة مع النور إزاء تقلبات النفس البشرية التي يصعب عليها تقبل صراحته ووضوحه  ، تكفينا وقفة صدق لنتبين أن السيطرة على الأمور السيئة مهارة لا يتقنها جميع البشر ،كما أن المرء يكون سريع التأثر بكل ما يتفق مع أهوائه ومصلحته الشخصية.
لذا دائماً ما يبدو الرسام متحذلقاً وفي قمة التفاهة إن حاول افتعال شعور أو انطباع في أذهان الآخرين لا يملك هو شخصياً امكانية السيطرة عليه...
ولأن العقل غالباً ما ينجح في استخلاص المناسب من القوانين وهو في خضم تجاربه، فقد أصبح لزاماً عليّنا أن نكون أكثر فهماً وقرباً من لوحة الدنيا، وسواء كنا رسامين أو من مجموعة المتفرّجين العالقين بين لوني النار والنور، لا مناص من إيجاد استجابة تمنح صاحبها قيمة شجاعة حرف (الواو).
نهض الرسام أخيراً من مكانه وسار بخطوات متزنة مقتفياً آثر ما توصل إليه من مشاعر وأحكام.
تناول من أعماقه بعض الأدوات البسيطة، تأملها ثم هذبها بلطف وبدا واثقاً ومستعداً لرسم شيء ما...
ورغم أن الشرور على الأرض لم تنته بعد إلا أنه كلّما ماتت نجوم في السماء تاركة وراءها سحابة كونية لتولد منها نجوم جديدة رسم صورة  للأمل.

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...