مناداة الحرية … جبران خليل جبران

من أعماق هذه الأعماق نُنَاديكِ أيتها الحُرِّيَّة
فاسمعينا.
من جوانب هذه الظلمة نرفع أكفَّنا نحوَكِ
فانظرينا.
وعلى هذه الثلوج نسجد أمامَكِ
فارحمينا.
أمامَ عرشك الرهيب نقف ناشرين على أجسادنا
أثوابَ آبائنا الملطَّخة بدمائهم, عافرينَ شعورنا
بتراب القبور الممزوج ببقاياهم, حاملين السيوف التي
أُغمدت بأكبادهم, رافعين الرماح التي خَرَقَت صدورهم…
فَاْصغي أيتها الحرية واسمعينا

من منبعِ النيل إلى مَصَبّ الفرات يتصاعد نحوك كعويلُ النفوس متموّجًا مع صراخ الهاوية,
ومن أطرافِ الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتدُّ إليك الأيدي مرتعشة بنزع الموت,
ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوَكِ الأعين مغمورةً بذوبان الأفئدة… فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا.
في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان, تُقرَع أمامك الصدور…
وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة, تُطرَح لديكِ القلوب…
وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحنُّ إليك الأرواح… فانظري أيتها الحرية وارحمينا.
في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة, وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك,
وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة… فأشفِقي أيتها الحرية وخلّصينا.

أصغي أيتها الحرية واسمعينا.
التفتي يا أمَّ ساكني الأرض وانظرينا.
نحن لسنا أبناءَ ضرَّتِك.
تكلَّمِي بلسانِ فردٍ واحدٍ منَّا,
فمن شَرارةٍ واحدَةٍ يشتعل القشُّ اليابس.
أيقظي بحفيفِ أجنحتك روحَ رجلٍ من رجالنا.
فمن سحابة واحدة ينبثق البرق,
وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال.
بدّدي بعزمك هذه الغيوم السوداء,
وانزلي كالصَّاعقة,
واهدِمِي كالمنجنيق قوائم العروش
المرفوعة على العظام والجماجم…
اسمعينا أيتها الحرية.
ارحمينا يا بْنة أثينا.
أنقذينا يا أخت رومة.
خلّصينا يا رفيقة موسى.
أسعفينا يا حبيبة محمَّد.
علّمينا يا عروسَةَ يسوع.
قوّي قلوبنا لنحيا, أو شدّدي سواعد أعدائنا علينا
فَنَفْنَى وننقرض… ونرتاح.

* جبــران خليــل جبــران
 مناداة الحرية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...