الأربعاء، 16 نوفمبر 2022

في منظور الوقت المناسب


 
لا شك أنَّ للحقائق التي يستخلصها الوعي من خلال تأمُّل الظَّواهر والصُّور والنَّظريَّات والفرضيات الكوْنيَّة التي يمتزج فيها الواقعيُّ بالاحتمالات الممكنة، فاعلية مهدئة ومهذَّبة للنَّفْس لا تنافسها فيها أيُّ تركيبة بلاغية أو علاجيَّة أوجدتها الظُّروف البشريَّة على مرِّ العصور.
حتَّى وإِن كان مدى الرُّؤية في هذا المجال أَشبَه بخيطٍ رفيع جدًّا لا يتجاوز حجم الإبرة التي دائمًا ما تستفزنا إلى البحث عنها في كلِّ كومة قشٍّ تُصادفنا.
فإِن ذلك لا يُنقِص شيئًا ممَّا نَرَاه ولا يُناقِضه، بل يُعطِيه قِيمة أَكبر، سواء كان من خلال نماذج رياضية تصف خصائص هذا الكون الخَلاَّب، أو صورة واقعية من متحف الكوْن، وأرشيفه الضوئيّ تخبرنا بما هو حقيقي حوْلنا!
فَتَأمَّل معي إِذًا تلْك الخِفة المسْتحيلة!
فالْكَوْن المرئي يا صديقي يَطفُو على محيط مِن الرَّهْبة، أَسرار عمْلاقة تسبَح في مادَّة لا مرئية، لا تستطيع عيوننا المجرَّدة فكَّ غموضها.
في المقابل سيُعْجِزنا الضَّوْء القادم إِليْنا عن رُؤية حاضر هذا الكون والإحساس به.
كما النجوم التي تظلّ في مَنظُور مُراقِب على الأرْض، متلألئة برشاقة الماضي كأنَّها فِي زُرقَة شبابها.
بينما هي في مكانها الواقعيِّ تقاوم بزيادة تفاعلات القلْب ما اعترَى غلافها الخارجيّ مِن برودَة واحمرار، والذي بدوْره يبدأ بالتَّمدُّد للإفلات من ثقلٍ جاذِب، وتأجيل انهيارٍ حتميّ إِلى الدَّاخل.
ورغم أنّها ليست في حِرْزٍ حريز من الفناء وتداعياته، إِلَّا أَنّها تُوَاصِل الانْدماج؛ لتظلّ ظاهرة سماوية تُنتج الطَّاقة وتبدُّدها في الفضَاء.
ولتأْخذ كلَّما تَطلَّعَت إِليْها العيون ليلًا أماكنها المعتادة، كنقاطٍ ساطعة ومتوهِّجة على صفحة السَّماء.
كلُّ ما هو حولنا مثير للدَّهْشة ويستحقُّ التأمّل والمتابعة؛ لإدراك الصُّورة بكامل تفاصيلها المبهرة، ودقائقها البديعة..
لكن بتَأنٍّ وحذَّر وعلى رؤوس الأصابع؛ كي لا يمسّ وعينا شيءٌ من عدائية الكويكبات والنَّيازك، تلْك الصُّخور المثْقلة بالميِّت من معادن الكوْن وعناصره، عنْدما تَتَصادم بعشوائيَّة، أو تتساقط  كأنَّها شراذم مُتناقضة.
وهكذا، حتى تعانق عقولنا أولى المشاهد القادمة إلينا من بداعة تلك الحركة الدَّؤوب في مداراتٍ تتجه رغم التَّغْيرات نحو الانْتظام والثَّبات.
ويتلاشى خوفنا كلّما تقدمنا بوعينا أكثر، ووصلنا إِلى فهم هذا التوازن المذهل بين الحالة الثابتة من السقوط الحرّ في مجال جسم آخر، والسرعة المناسبة التي تتشكل بها المدارات حوله.
والتي اتضحت واستقرت في أذهاننا أخيرًا بمفهوم "الجاذبيَّة".
فمن نظرياتٍ ثورية، وقوانين أَولية حسمت الخلاف القديم لصالح مركزية الشَّمس، ووصفت مدارات الكواكب الإهليجية حوْلها. لتأتي بناءً عليها قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، أو ما يتم اعتباره الآن 
(تفسيرًا ميكانيكيًا أو كلاسيكيًا).
والذي يرى أنّ الأجسام الساكنة تبقى في حال السكون، ولا تبدأ في التحرك تلقائيًا.
كذلك الأجسام المتحركة في الفضاء، تبقى مستمرة في الحركة بخطٍ مستقيم، بنفس السرعة، وإلى الأبد ما لم تؤثر بها أي قوة خارجية.
لكن وقوع الكواكب تحت تأثير جاذبية الشمس التي تجذبها نحوها، يجعلها تتحرك في مدارات دائرية تقريبًا حولها.
بينما تبقى مستقرة في مساراتها تلك بفضل قوَّتين متعاكستين ومتساويتين: الأُولى الجاذبيَّة ومركزها الشَّمس، والثَّانية قوَّة القصور الذَّاتيّ للكوكب.
لكن المفاهيم تتغيَّر كلّما ظهرت التَّناقضات بين التَّنبؤات الحسابيَّة والملاحظات الرَّصديَّة.
حيث كان كافيًا عدم تطابق معدل الانحراف المرصود في نقطة "الحضيض الشمسي" لمدار كوكب عطارد، الكوكب الأقرب إلى الشمس، والأكثر تأثرًا بجاذبيتها، مع القيمة النظرية التي تمَّ احتسابها بقوانين نيوتن؛ للتأكد من أنّ فهمه لماهية الجاذبية بحاجة إلى المراجعة والتصحيح.
 ولينتهي التناقض أخيرًا بين يدي النَّظريَّة النِّسبيَّة العامة التي قدمت تفْسيرًا منطقيًا ودقيقًا لهذا الانحراف.
فالجاذبية إذًا ليست قوَّة بالمعنى الكلاسيكي، تعمل بشكل مباشر على مسافة بين جسمين، في زمن مطلق، ومستقل عن أيّ مدرك، ويتقدم بوتيرة ثابتة في جميع أنحاء الكون.
بل قوة تصف التفاعل الناتج بين كتلتين
وما نختبره كجاذبيَّة هي خاصِّيَّة هندسية للواقع الرُّباعيِّ (الزمان والمكان ) والذي تتحرَّك فيه الأجسام السَّماويَّة، وتتسبب كتلتها وطاقتها في انحناء أو تَشوّه نسيج الزمكان المحيط بها.
مما يعني أن الجسم حين يسير في خطٍّ مستقيم، أي يتبع أقصر مسار بين نقطتين وفق منظوره الخاص لكن عبر مساحة منحنية في الزمكان؛ فإن هذا يجعله يبدو لنا كأنه يسير في خطوط منحنية، ما يعطي إِحساسًا بأنَّ الأجسام تنجذب إِلى بعضها البعض.
حتى الضَّوْء الذي ليس له كتلة، وينتقل دائمًا في خط مستقيم وبسرعة ثابتة، سيتبع المسَار المنحني للزَّمكان أثناء مروره في مجال الجاذبية للكتل الضخمة لأن لديه "طاقة وزخم"، ويعرف هذا التأثير باسم "عدسة الجاذبية".
وما تخبرنا به النسبية أيضًا أن الزمن المتشابك مع المكان كبعد رابع يتبع إيقاعًا نسبيًا.
أي أنّه يتدفق بمعدلات مختلفة في منظور أشخاص مختلفين اعتمادًا على معدل تسارعهم، فكلما زادت السرعة، أو اقتربنا من مركز الجاذبية، مرّ الوقت بشكل أبطأ.
ومع التَّسليم بأنَّه لا توجد نَظريَّة صحيحة مئة بالمئة، أو لم يعترِها النَّقص والارتباك أَثناء تفسيرها لقوى الكوْن، يظلّ الأمر المثير للحيرة والدّهشة حقًا، هو أنّ النظرّية النسبيّة التي تصدّت لِفَهم الكوْن في أبعاده الكبرى كالنُّجوم والْمجرَّات، لا تتوافق مع ميكانيكا الكم، الدِّعامة اَلأُخرى للفيزياء الحديثة، والتي تبحث في أَصغر أبعاده: كالجزيْئات والذَّرَّات والدَّقائق تحت الذَّرِّيَّة حيث تتناقض مع النسبية بمفهومها المطلق للزمان، وواقعها الذي يعجّ بالاحتمالات التي لا يمكن تفسيرها أو التنبؤ بها؛ لشدة غرابتها
لكنَّنا في كوْنٍ تتكامل فِيه الأضداد، ولا يضطرب ويختلُّ نظامه بِالاستثناءات.
وكأنَّ تلك الاسْتثنائيَّة هي مُتَنفسٌ لكلِّ جرمٍ في هذا الكوْن، وعلامته الفارقة.
فإذا ما انتَّوينا البحث بعيون عقولنا عمَّا يُتمِّم دهشتنا؛ فلن نَجِد ما يجعلنا نتخطَّى كوكبنا  بكل ما يحويه من الظروف الملائمة للحياة والعناصر اللازمة لها، وما نعلمه وما لا نعلمه من بدائع المخلوقات، والذي يتألَّق تميُّزًا بالقصة الفريدة لكلِّ حيٍّ يتنفس، ويزداد جمالًا بصلواتنا، وأفكارنا الخالدة، وتعاطفنا التِّلقائيّ.
أرضنا التي إن ضاقت مرة في تصور من اتخذ "قلة الصبر" حلًا وسبيلًا، أو غصَّت مرات عديدة بالانفعالاتٍ اللحظيّة التي تستعجل النهايات الحاسمة، وتنسحق بفعلها سعادة النفوس في صراعات مريرة وشرور ثقيلة.
فإنها تتسع على امتداد الكون في عيون الملْهمين من أبناء الحياة –بفتح الهاء أو كسرها– الذين تسري في عروقهم حرية الروح والفكر، فتملأ قلوبهم بنبضات إرادة أصيلة تدفعهم إلى التعمّق وعيًا وعلمًا، والعمل بمهارة تفوق كل نمطٍ وتقليد..
وهنا، لا بدّ أن يقفز إلى أذهاننا سؤال مشاكس وهو: إلى أين يمكن أن تصل نبضات وجودنا المسافرة بالموجات الراديوية في الفضاء الشاسع، بحيث تتمثل صورة كوكبنا كاملًا، في تمام إشراقته كما يكون "قمر الحصّادين" في الخريف؟!
لكن سؤالًا كهذا، تعبق فيه مركزية الحياة وسط مسافات هائلة لا تستطيع عقولنا المحدودة استيعابها، سيظلّ دون أدنى شك بلا إجابة..
وربما علينا الاكتفاء عنه بهذا السّكون الغامر حولنا

وفي الواقع ليس مهمًا أن نعرف إلى أين.
حقًا لا يهم ذلك، وحاضرنا معنا، كعصفور اليد.
المهم أن نهتم بأرضنا، ونحافظ عليها.
أن نحب بلا حدود...
نصحح أخطاءنا، ولا نؤذي بعضنا بعوادم حضارتنا.
أن نتقدم في مسار الزّمن بما يليق بقيمة حياة يفتقدها كوننا المنظور!
إذ مهما تعاظمت وتعملقت ذخيرتنا من قوى الكون وأزمنتة ومادته، فإنّها في حسابات الكتل والمسافات تكاد تضيع وتختفي إذا ما تمت مقارنتها
بامتداد شعيرة شمسية عالقة في مجالها المغناطيسي!.

________
*صورة تبين فرق الحجم الهائل بين البروز الشمسي وكوكب الأرض.


 

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...