الخميس، 3 سبتمبر 2020

بين أزمنة الحنين والإنتظار


صحيح أن للمسافات الفاصلة بين أزمنة الحنين والإنتظار مستويات متعددة في الحضور، إلا أنها تظلّ دوماً صاحبة الحضور الأبرز في صراع الوعي مع متغيرات الواقع. 
ليصبح الفرار من قسوة تلك المسافات ، وما يرافقها من مشاعر الإحباط والحزن والتعب واحدة من أصعب المهمات في هذه الحياة.
وهو بالتالي ما يجعل السؤال مستمراً عن ما بإمكانه أن يخفف من طغيان ذاك الجبروت،عندما تأخذنا تلك المسافات باتجاه البعيد، إلى زاوية من زوايا النسيان الباردة، إلى حيث تصير ذكرياتنا المستقرة على ذهب القلب، وتفاصيل الأمكنة الساكنة فينا عناويناً للإهمال والغياب..
فلا يبقى لنا في سجلاتها المتخمة بالحياد سوى رتم النهاية المختبئ في نبرة لا مبالية، لا تتوقف عن مطالبتنا بالتزام الصمت والهدوء، وكِتمان الشوق، والثبات على طريق النسيان..
لكن حتى وإن كانت تلك المسافات الجاثمة بثقل خطابها وأحكامها على صفحات القلب هي أول ما تخشاه النفس، فإنه يظل للروح أخيراً موقفها الرافض للإستسلام، وعِلمُها بأنه لا بُدَّ من سفر على دُرُوب الحنين والإنتظار، حتى تلتئم جراح الأغنيات، وتستريح في ذاكرتنا قوافل الغائبين، ويزهر الصمت في أرض الأبجديات عناقيد كناية، وتعود كل الأشياء الجميلة إلى طبيعتها.

الثلاثاء، 18 فبراير 2020

في المعنى والجدوى 2

  الفلسفة

أحب تسمية الفلسفة بأم العلوم، وهي كذلك فعلاً؛ فالفلسفة "حب الحكمة" لا ترسم مسارات التفكير من خلال صياغة أسئلة متعالية، ولا بخلق الإشكاليات التي تهدف كما يدعي البعض عن سوء فهم إلى تقويض وزعزعة معتقدات وقناعات الناس  

فالفلسفة بفروعها المختلفة تهتم بالبحث عن إجابات على ما تطرحه الذات من تساؤلات. وتقديم تصوّرات وحلول للقضايا والتحديات التي يفرضها الواقع. بحيث يصير لازماً على الإنسان السعي لإيجاد تفسير يبدّد ضبابية كل مُعْضلة بالتداخل الواعي.. وبعيداً عن التأثير السلبي للنظرة المادية على الفلسفة.

وفي حال أردنا مقارنتها بالجانب العملي من العلوم المنشئة للفرضيات، فإننا  سنكتشف مدى أهمية الفلسفة في جعل مجالات المعرفة بموضوعاتها وتفصيلاتها وغاياتها منسجمة ومتماسكة.

مع وجود فارق مهم يصبّ في مصلحة الفلسفة ألا وهو طول الفترة الزمنية التي يتطلبها المنهج الواقعي أو التجريبي لإثبات صحة فرضية في حين يمكن للفلسفة متجاوزة عامل الزمن النفاذ إلى وصف المعالم الخفية للنتائج باستخدام مهارات التفكير التأملي والمنطقي

هي أم العلوم واثباتها: تلك النظرة الواعية المدركة لأبعاد السؤال، المتسلّحة بقوة القيمة الراسخة في الوجدان،وشغف المعرفة المتغلغلة في أعماق الكون والإنسان..




أخطاء البدايات 
تلك التي تجعل الوصول إلى النتائج المرجوّة والمتوقعة أمراً أقرب إلى المستحيل ..
إذ أننا مهما حاولنا فلن نتمكّن من التغلب عليها بتجاهل أثرها الذي يبقى مستمراً حتى النهاية.
النهاية التي يتطلب إصلاحها بداية جديدة، بوعي أكبر، واختيارات أكثر دقة، وإرادة لا تخشى هواجس الخيبة والفشل ..

 العجز
إن العجز الحقيقي ليس عدم القدرة على رؤية التفاصيل الدقيقة لمضامين الأشياء، بل هو محاولة إيهام النفس وإقناعها بأن ما تراه هو المضمون بينما هي في الحقيقة لم تبرح ضحالة العناوين..

الحوار
نحن بحاجة دائمة إلى الحوار، والتمسك بتلك الساحات المحايدة لكي نتمكن من إيصال ما نريد قوله، أو عندما نكون بصدد توضيح موقف من خلال حديثٍ مُدَعَم بالحجج والبراهين وقادر على المساهمة في تشكيل الوعي العام . 
وهذا يعني أنه ليس كل حديث منطوق أو مكتوب يدور بين شخصين أو أكثر يمكن اعتباره حواراً حقيقياً. 
فالحوار حتى يكون هادفاً وايجابياً وفعالاً لا بدّ له من توفر شرطين أساسيين الأول: ثقة كل طرف من أطراف الحوار بمعتقداته وآرائه بنسبة معقولة تتضمن استعداده للتراجع عنها إذا ما ثبت له أثناء النقاش عدم صحتها ومناسبتها.
أما الثاني فهو حسن تجاوب المحاورين وإهتمامهم وقدرتهم على الإستماع والإنصات بصبر ودون شخصنة، أو قوالب تمثيلية ،وأحكام مسبقة.
الحوار وسيلة تواصل تهدف إلى إيجاد نقاط مشتركة بين المتحاورين تجعلهم فكرياً أكثر مرونة واتزاناً وقرباً من الحقيقة، وتبعاً لذلك فإنه عندما يتم توظيف ثنائية "المع والضد" كأداة تعريف وتقييم وتخاطب ، بحيث تتحدد عبارات المحبين والكارهين على أنها براهين عقلية دامغة ، يفقد الحوار قوة جاذبيته متحولاً إلى سلوك عشوائي تتشظى فيه الحقوق والأفكار والمعارف.


الكراهية
عندما تراها بعين عقلك ستدرك أنه لا يمكن للكراهية أن تكون سوى نغمة ناشزة مشبعة بشوائب غضب عبثي.
راقب جيداً مركز أفعالها، حركاتها التائهة بين مبررات هشة وإحساس منغلق على ذاته وغير مؤهل لمهارات الإقناع.
ولاحظ كيف تضيع أبعاد الخطوط المتوازية في طبيعة غير قابلة للضبط، ومتنافرة مع دَوْزَنَات الروح.
حتى الذين يستمعون إليها ثق تماماً بأنهم يفعلون ذلك من باب الإعتياد على ضجيجها وصخبها ولا بدَّ أنهم سيشعرون بالهدوء والراحة لو بادر أحدهم بإسكاتها ليبدأ صوت الحب غناءه الموزون.

الحــب
إن أجمل ما في الحب هو اصراره على أن لا يحده واقع أو منطق ...
فهو التسليم الكامل لفنون القلب وموسيقاه..
هو تلاقي الأضداد..
تلاقي الشرق والغرب .. تلاقي الأبعاد..
ليس في الحب بداية أو نهاية ... وقت أو زمان ... 
سوى أن تتخذنا وداعة غيمة في السماء رفقاء أبديين لها 
الحب: هو تمازج الأرواح وتلاحم القلوب رغم المسافات...
هو فرحنا العفوي بتلك العيون القادمة إلى ميناء الجرح..
شوقنا الدائم لهمسات الصوت الهاربة من قيود الصمت ..
هو أن ننسى أنفسنا لنعود ونتذكر أننا هنا لأجل الآخر …
لأجل من نحب ومن نعشق ...
لأجل تلك العيون وموهبة الحياة التي تسكن أعماقها الحريرية … تلك الموهبة التي علمتنا أن نرفض الموت والاستسلام حتى نحظى بلقائه ووداع أنفسنا ..

الأحد، 16 فبراير 2020

بين النقد والإنتقاد



يقول الكاتب الأمريكي ألبرت هوبارد :
إن أفضل طريقة لتجنب اللوم والإنتقاد
هي ألا تقول شيئا، وألا تفعل شيئا، وألا تكون أي شيء" أي أن تكون نكرة.. 
بلا شك أن القدرة على تقبل النقد والتعامل معه ثقافة لا يمتلكها أي شخص .. 
كذلك معرفة الكيفية التي يكون عليها النقد الإيجابي والإنتقاد السلبي ..
 الجميل أننا نستطيع بقليل من الملاحظة، والمقارنة، وفهم طبيعة العمل النقدي تبين الفرق بينهما .
فالنقد باختصار: هو عملية فحص وتقييم للعمل،الرأي،القول، تكشف نقاط الضعف والقوة فيه مع تقديم اقتراحات وأفكار بديلة تكون من وجهة نظر الناقد مناسبة ومتسقة أكثر مع العمل
إن النقد المطلوب إذاً هو الذي يشعرنا بأهمية ما نقوم به ..
نقد موضوعي، يذكر السلبيات والإيجابيات ، ولا يقف من العمل موقف الضد ..
كما أن النقد الإيجابي لا يزيد الضغوط على النفس، ولا يجرحها أو يؤلمها ..فالناقد العارف والخبير يعطي رأيه ويقيم بعقلانية وبمعزل عن الذات أوالشخصية وذائقتها الخاصة..
لكن الحقيقة المرة تخبرنا أنه مهما حاولنا أن نبحر بأفكارنا بعيدًا عن العواصف والتيارات المعاكسة، فإن هناك أشخاصاً مهووسون فعلا بالإنتقاد، تعرفهم من نمطية تفكيرهم التي تُخضِع كل شيء لمبدأ الإنتقائية، ومن عيونهم التي لا ترى إلا النقص والسلبيات.
كما أنهم بارعون جدا في اصدار الأحكام دون بذل أدنى مجهود وأقصد بالمجهود هنا ما يتطلبه الحكم من المعرفة والتفكير والخبرة حتى يكون صحيحاً ومقبول منطقياً وانسانياً..
والُمنتِقدون رغم كثرتهم وتنوّع أساليبهم إلا أن أكثر ما يثير العجب، ويبعث على الإستغراب منهم، هم أولئك الذين مهما كان النقد لطيفاً وموضوعياً تجدهم يستشيطون غضباً إذا ما تم توجيهه لهم، رغم كونهم أكثر الأشخاص انتقاداً لغيرهم !.إذ أنهم لا يتوانون لحظة عن الإنتقاص والتقليل من شأن أفكار وأعمال الآخرين معتقدين أن الإستعلاء والإستعراض والإحتكام للظن من أسس النقد والتقييم..
ضف إليهم من يسارع إلى تقديم النقد لغاية اثبات وجوده رغم جهله بمعايبر النقد وضوابطه.
الطريف أنّه لا يكتفي بتحطيم قواعد اللباقة واللياقة بتدخله فيما لا يعنيه، بل تجده على استعداد لأن يلغي العمل بأكمله مقابل أن تصبح آراؤه النقدية الفذة مؤثرة ومسموعة ..
نعم النقد البَناء بأنواعه وتعدد أدواته مهم، ولا غنى عنه لتحسين وتطوير الأفكار والأعمال. لكن يبقى أهمها وأعظمها هو النقد الذاتي.
وفي جميع الأحوال علينا ان نكون أكثر وعيا وحكمة لنتمكن من تحديد ما يستحق الاستماع إليه أو تجاهله؛ عسى أن تتسع العقول والقلوب لكل ذلك..

الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

رقائق روحانية 3

 

لنا ضوء العناوين المحفوظة في ذاكرة الجذور..  

فكيف يتلاشى هذا الضوء والحب باعثه فينا. 

كيف يتجمد هذا الضوء وقد اشتعل من ثبات ﺭﺅانا. 

لنا يقين الفرح الآتي... 

حين نحب تسقط الهموم والمتاعب في خانة الصفر... 

ويفيض الجمال متمثلاً بصورة حب ناطقة بألوان ومعالم مدينة أنيقة لا نهاية لحدودها في قلوبنا.


الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

في البعد الرابع لأحلامنا...




حــوار مُتخيَّل بين صديقين:
 - ها قد وجدتك أخيراً، أخبرني الآن ما الذي حصل معك بالتفصيل؟ 
- لا .. لا أستطيع وأرجو أن تلتمس لي العذر فأنا -كما تعلم- لا أحب سرد التفاصيل، ولا أجد ذلك مناسباً الآن..
- لكني لا أعلم سبب إصرارك على الإحتفاظ بها لنفسك بينما تدرك بكل تأكيد مدى اشتياقي لسماع أخبارك !
- أتسخر مني ولم أقل شيئاً بعد؟!
- لا لا أبداً لست من أولئك المترفين المتنعّمين بمباهج اللامبالاة، فأنا أكثر من يشعر بآلام الآخرين وأول من يفهم دلالات صمتهم.!
- حسناً، القصة باختصار أني لم أتوقف عن الحلم طوال ثلاثين عاماً... كنت أحلم وأحلم ولم أنم أبداًً!
-رائع! أكمل يا صديقي..
- سأخبرك بكل شيء على الرغم من أن انفعالاتك تلك ، وحساسيتك المفرطة تجاه التفاصيل تزيدان من توتري وقلقي..إلا أنني ممتن جداً لذلك ولا أبالغ إن قلت و سعيد أيضاً ..
- الأهم بالنسبة لي الآن أن تكون بخير، هذا ما أتمناه حقاً.
-كما قلت لك قبل قليل ، لم أتوقف عن الحلم يوماً، لكن في يومٍ من الأيام وتحديداً في ذلك الوقت الذي انتهت فيه واحدة من أكثر محاولاتي جرأة وموضوعية لفهم واستيعاب ظروف الحياة.
- نعم. ماذا حصل ؟
-كان تعب الإنتظار قد تمكن مني..فغفوت على صخرة الحقيقة ونجوت...وها أنا ذا أمامك.
- وهل حظيت أحلامك بنفس المصير ؟
- لا أعرف حقاً بماذا أجيبك، ما أشعر به الآن يجعلني تقريبا عاجزاً عن إيجاد أي تفسير، وعاجز أيضاً عن إقناع نفسي بأن كل شيء طبيعي بينما أرقب روحي وهي تتلاشى في نقطة مجهولة لا أستطيع إدراكها أو اللحاق بها!!
- هذا كلام لا يصدق !
- لقد كان لأحلامي وهج حضورها المميز ، ولا زلت أذكر ذلك جيداً، من لحظة انباثقها بهدوء وسلاسة في مخيلتي حتى تسقط في يقين قلبي كشلال هادر. لكن لا شيء الآن إلا هذا السكون الرهيب المقيم في أعماقي..
أصبحت يا صديقي كشجرة صبّار مهملة في صحراء قاحلة، تعد أيامها الزاحفة إليها دون ترقب أو لهفة تخفف عليها وطأة العزلة والإنتظار، مشغولة بحزنها عن كل ما قد يبعث فيها روح الحياة حتى لو كانت رغبة بافتعال جدال مع سحابة عابرة، أو مغازلة مع طيف سراب ممعن في العبث.
- عجيب أمرك يا صديقي خصوصاً أني لم أعهدك هكذا من قبل !
- صدقني أنا تلك الشجرة التي لو تأملتها ألف عام لن ترى في غزارة أشواكها وامتدادات فروعها الباهتة في الفراغ سوى آثار تعاقب الفصول وما تحفره بقسوة فينا من تبدلات وتغيرات.
- لكن لا يُفترض أن يحدث معك ذلك حتى في الخيال!
-أدرك أنك تشعر بالغرابة، وهذا أمر متوقع، لكن ما صدمني حقاً أن ذاك الذي ظل طول الوقت حبيسا في أعماقي ها هو يَصُول ويَجُول حولنا، مما يؤكد أن الحياة قد تخلت عني وتركتني، أشعر كأني شخص ميت يعيش في أحلامه.
- رجاءً توقف عن قول هذا الهراء... فقط انظر إلى وجهك المنعكس في عيني سترى إنساناً مفعماً بالحياة... وأنت أكثر من يعرف أن لك قلباً محارباً لا ترهبه الشدائد ولا تهزمه الخطوب.
-أنت محق! لقد كنت بالفعل أملأ فراغات حيرتي بالهذيان
-لا تبالغ في لوم نفسك فهذا حال تعساء الحظ أمثالك مع أحلامهم.
-كيف يكون حالهم؟
-تماماً كحالك أنت، قوم لا تفارقهم طبائع اليأس،ولو تأملتهم قليلاً لعرفت ما ينقصهم، ولأدركت ما غاب عن ذهنك بسبب اضطراب قلبك، ألا وهو فهم أعمق لطبيعة الحياة، والتحلّي بنظرة أكثر إنصافاً لواقعهم تجعلهم لا يستكثرون على أنفسهم فرحة الإستماع لنبضات أحلامهم سواء تحققت تلك الأحلام أو لم تتحقق بعد.
- لكن كيف تفسر سكون نفسي؟
-ببساطة يا صديقي طالما أنك لم تسعَ إلى حلمٍ جديد فهذا يعني أنه لم يعد لديك سوى ظلك رفيقاً لخطواتك المتعبة، فلا يوجد تصرف أكثر جنوناً وعبثية من سجن أنفسنا في دائرة حلم قديم في حين أن كل ما يجري في هذا الكون يحثّنا على أخذ موقعنا الجديد على خارطة الوعي!
- هذا هو النضج أليس كذلك؟
- إلى الحدّ الذي ينعش قلبك ويجدد روحك، نعم.
-ما أتعسني لولاك يا صديقي!
- لا شك في ذلك...

الأربعاء، 12 يونيو 2019

لا أحدٌ سواك عند الإجابة يعنيني !


نعم, يمكنك أن تكون عالمي الذي لا حدود له ولا قرار ،ما دام  إسمك أهم مطلب تهتف به ذاكرتي، ولم أكن يوماً من الذين يمرون على الأسماء والكنايات دون إلقاء بال لما تقوله مضامينها..  
ويمكنك أن تكون الغائب الحاضر أو الحاضر الذي لا يغيب أيها المتجذر في ألوان الفصول وكمال غاياتها!
ولأنك الحقيقة المجردة من كل وهم؛ لم أعد أبالي بمنطق الصمت أو بنتائج الغياب يكفي أن أسكب فضة إسمك في عتمة الأشياء كي أتحرر به من قوى الفراغ والأصداء، وخلاصة القول هي أن لا أحدٌ سواك عند الإجابة يعنيني !

الاثنين، 20 مايو 2019

في الكوميديا..

يشير مصطلح الكوميديا إلى كل عمل فني أو أدبي يحمل طابعًا ترفيهيًّا وله نهاية سعيدة ، بحيث يتميز النوع الهادف منها وهو الأكثر قرباً وجذباً للقلوب بمحتوى تهذيبي يخاطب العقول.
على الرغم من قلة المصادر التي تتحدث عن بدايات الكوميديا إلا أن النصوص التاريخية والأدبية تخبرنا أنها كانت في نشأتها وبداياتها واحدة من الطقوس الدينية التي كانت تقام في أعياد الزرع تمجيداً لديونيسوس، إله الخصب والنبيذ في العصور اليونانية القديمة؛ وذلك لجلب الفرح والبهجة إلى نفوس المحتفلين.و تلطيف الأمزجة الغاضبة وجعل الناس ينسون مشاكلهم وأزماتهم.
بينما يقدم آرسطو في كتابه النقدي "فن الشعر" مفهوماً للكوميديا نستطيع من خلاله تلمس ملامح تطورها، فيعرفها على أنها محاكاة في جزء مشين قد يكون خطأ،نقيصة، حماقة لا يبعث علي الألم والضيق للمشاهد ولا يجلب التهلكة ويحقق عنصر الفكاهة. 
ويتضح ذلك في القناع الكوميدي المثير للضحك الذي رغم ما فيه من قبحٌ وتشويه إلا أنه لا يسبب ألماً أو أذى عندما نراه.
والملاحَظ حقاً منذ استقرت الوظيفة الإجتماعية للكوميديا أو الملهاة على يد أريستوفان (450 ق.م) أحد أعظم كتّاب الملهاة اليونانية القديمة على اعتبارها صوت المواطن العادي الذي يتفاعل وينتقد ويتذمر ويحتج ويتداخل من خلالها مع واقعه الإجتماعي والسياسي والثقافي، أنها لا تتوقف فقط عند محاكاة الأفعال الأدنى من المستوى العام للمجتمع، بل هي تعالج وتستأصل تلك العيوب والأخطاء من المجتمعات.
إذ أنها تشكل من نفسها دافعاً لتجنب كل فعل قد يكون محل انتقاد وسخرية حيث تعتمد الكوميديا (الملهاة) سواء كانت مشهد تمثيلي، أغنية، خطاب أو صورة على اقتناص المظاهر المتناقضة في الأقوال والأفعال والمواقف الإنسانية، وتقديمها للمتلقي عبر المبالغة اللاذعة، وهي صحيحة ومقبولة عقلاً وذوقاً ما دمنا نتحدث عن فن يستهدف نقد الظواهر السلبية والتسلية وإثارة الضحك. 
إن سرّ القبول والتأثير الذي تحظى به الكوميديا يكمن في زخم واقعيتها ووحدتها مع المظاهر والتفاعلات الإجتماعية والسياسية... في حين أن جميع أنواع الفنون الأخرى تقريبا ذاتية التغذية وممعنة في الفردية.
أما المحاكاة الساخرة فمن المتفق عليه أنها أسلوب نقد إجتماعي، وهو لا يتأتى إلا بالجمع بين متنافرين،أي حين يكون القول مناقضاً للمعنى أو في قول شيء والمقصود غيره، وقد يتجه هذا الأسلوب إلى الذم بصيغة المدح، أوالمدح بألفاظ ظاهرها الذم.
وبتأمل مصطلحي المفارقة (paradox) والسخرية (Irony) وبالعودة إلى أصل هاتين الكلمتين يتبين الفرق بينهما على النحو التالي : فنجد أن أصل كلمة (Irony) هو الكلمة الأغريقية (ειρωνεία) التي تعني السخرية والتهكم أو صياغة وتصدير الرأي والشعور بشكل معاكس للحقيقة أما (paradox) فأصلها الكلمة الإغريقية (παρά-δοξα) وتعني ضد الرأي، أو ما هو ضد المفهوم الشائع, وقد تأتي بمعنى التناقض الظاهري.
من هنا يتضح أن السخرية أساسها مفارقة مضبوطة على إيقاع "توقع اللامتوقع".
أما مسرحها فهو وعي الناس وقدرتهم على التمييز والتفريق بين الحقائق وكذب الإدعاء والتصنع والخداع عندما يبدع الحسّ الساخر بكشفه.
يرى ديكارت أن السخرية المعتدلة النافعة التي تأخذ العيوب،وتجعلها تظهر كأمور مضحكة،دون أن نضحك نحن أنفسنا، ودون أن نبدي أي كره للأشخاص،هي ميزة من ميزات إنسان المجتمع المهذب،وهي تظهر مرح مزاجه، وطمأنينة نفسه،وحذاقة ذكائه، بمعنى أنه يعرف كيف يعطي مظهراً مسراً أو مفرحاً للأشياء التي يسخر منها. ومع أنني أتفق تمام الإتفاق مع رؤية ديكارت إلا أني أجد أنه من النادر جداً لإبداع تمت صياغته بقالب ساخر أن يتجسد فكاهة خالصة منزوعة الألم أو الحزن!
وهو ما يدفعني إلى القول بأن الأعمال الكوميدية الخالدة في ذاكرة ووجدان الناس لم تكن إلا نتاج إدراك وفهم للأبعاد التي تتفرد الكوميديا بتقديمها أثناء تعاملها مع الأحداث والسيناريوهات المأساوية والقضايا الصعبة في الوقت الذي تكتفي فيه تراجيديا الصراع بإثارة مشاعر الخوف والشفقة والبكاء..
فالكوميديا الراقية هي قراءة عميقة وذكية لتناقضات الواقع والنفس البشرية تنقلنا من حالة التضاد بين الملهاة والمأساة أو بين الضحك والبكاء إلى حتمية التقائهما وتمازجهما في الفن والحياة ...
وأخيراً قد تختلف المعايير التي تحدد نجاح الفكرة الكوميدية بإختلاف ظروف المكان والزمان، غير أنها تبقى دوما مرهونة بتحقيق عنصر المفاجأة في حبكتها، وبالغاية التي تستهدفها لتظل محتفظة بمكانتها في ميادين التعبير كقوة وقدرة واعية، عميقة المضمون وخالية من الإسفاف والتهريج.
أيّ في اهتمامها بما يكفل أن تظل دواء الروح، والسلاح الأكثر صموداً أمام مشكلات ومتاعب الحياة. 
ذلك أن أول ما ينبغي علي الكوميديا تحطيمه تحت أضراسها،هو بؤس المجتمعات، وما تعجّ به من صنوف الخلافات والخيبات .

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...