الأربعاء، 17 مايو 2023

في مسارات الذّاكرة المنسيّة


 

رغم أنَّه لا توجد صفة التصقتْ بنا أَكثر من النِّسيان، إلَّا أنَّ النَّفس لا تَفْقِد شيئًا من مضمونها، حيث تبقى الخبرات والتَّجارب والرَّغبات والعواطف المنسيَّة موجودة ومحفوظة في ذاكرتنا اللَّاشعُوريَّة. 

وما تلك الانفعالات والمشاعر الَّتي تُباغتُنا بين الحين والآخر دون أَنْ نجد لها تبريرًا معقولاً أَو سببًا مفهومًا، والصُّور الذِّهنيَّة الَّتي ترتسم في مخيِّلتنا أثناء النَّوم "الأَحلام" إِلَّا نبضات تلك الحياة المختبئة في أَعماق عقلنا الباطن.
وكأَنَّها إِشاراتٌ تُومئ لنا لِنستَدِلَّ بها على مسارات ذاكرتنا المنسيَّة؛ فنحظى ولو بالقليل من معرفة الفعَّاليَّات الَّتي تنْشُط بها أدمغتنا دون مستوى إدراكنا الواعي.

والواقع أنَّ اللَّاوعي، هذا الجزء الأساسيِّ والحيويِّ من التَّفكير والشَّخصيَّة الإنسانيَّة، ينتمي إِلى تلك المفاهيم التي لا يمكن إِيجاد تعريف دقيق وشامل وموحد لها.
إِذ أَننا نتحدَّث هنا عن عمليَّات عقلية لا يمكن ملاحظتها وقياسها إلا من خلال تأثيراتها، ورصد الاستجابات الَّتي تظهر على السّلوك والأداء عند التَّعرُّض لمحفِّزاتٍ محدَّدة.
هذا عدا تباين شخصيَّات الأفراد، واختلاف ميولهم، ورغباتهم وانْطباعاتهم، فما يتمُّ تأكيده لحالة معيَّنة قد لا يتَّفق أو يتناقض مع باقي الحالات النَّفسيَّة.
كذلك طبيعة النَّشاط الذهني اللَّاشعوريِّ الذي يتمّ بشكل تلقائيّ.
والتَّدفُّق الدَّائم والمتجدِّد والسَّريع للمعلومات، والذي يجعل محتويات اللَّاشعور متداخلة ومتغيِّرة ومتحوِّلة باستمرار.
وفي ذلك كمٌ من الضَّبابيَّة والتَّشويش ما يُعْجِز الوعي العاديِّ "اليومي" عن الوصول إليها بشكلٍ مباشر.
تمَّ اِعتبار اللَّاوعي مفهوما أَساسيًا في علم النَّفس على يد طبيب الأعصاب النِّمْساويّ "سيجموند فرويد"، حيث اعتمده في فهم العلل النَّفسيَّة، ومن ثمَّ في طريقته العلاجيَّة القائمة على تحليل السُّلوك الإنسانيّ، واستنتاج دوافعه الخفِية من رغبات وتجارب وخبرات وصدمات.
فاللَّاوعي كما يراه فرويد يلعب دورًا مهيمنًا فِي الحياة العقليَّة، وهو الَّذي يَكْشِف المعنى والتَّرابط الحتميّ الكامن فِي الأحداث الّتي تبدو في ظاهرها عشوائيَّة وغير مترابطة مثل الأحلام، وزلَّات اللِّسان، والأَخطاء العفويَّة.
لكن وبينما يؤكِّد فرويد على الطَّبيعة الشَّخصيَّة أو الفرديَّة للاوعي، وبأَنَّه صوت الماضي الَّذيََ يمارس سطوته على حاضر تفكيرنا، وعواطفنا، وسلوكياتنا من مخبئِه السِّرِّيّ حيث تنزوي الأفكار المهجورة والمشاعر والرّغبات المكبوتة بفعل القمع.
فإِن اللَّاوعي كما يَرَاه عَالِم النَّفس السّويسريّ "كارل يونغ" في كتابه الشَّائق (جدليَّة الأنَا واللَّاوعي) لا يقتصر على المحتويات المكبوتة فقط؛ وإِنّما أيضًا على كلِّ المواد النَّفسيَّة الموجودة التي لم تكتسب بعد مستوى ومرتبة الوعي؛ أيَّ بذور المحتويات التي ستصبح لاحقًا واعية.
فاللَّاوعي يحتوي على خليط من العناصر السَّلبيَّة والإيجابيَّة.
حيث يظهر جانبه السّلبي في الاضطربات العاطفيَّة والمشاكل والصِّراعات النَّفْسيَّة التي هي في الواقع ليست إِلَّا نتيجة عدم فهم محتويات ذلك الجزء مِن ذواتنا وإهمال معالجتها بشكلٍ واعٍ. 

بالمقابل ومن منظورٍ إِيجابيٍّ فإِن استكشاف اللَّاوعي، وتحليل أحواله وتأْثيراته يساعد الفرد فِي تطوير شخصيَّته، والوصول إِلى مستويات من النُّموّ الرُّوحيِّ أَكثر اكتمالاً ونضجًا.
حيث يركِّز يونغ على الأحلام التي نستطيع من خلال تحليلها ودراسة دلالاتها أن ندرك فعَّاليَّات اللَّاوعي وصيرورته التَّطوُّريَّة التي لا شكَّ أَنَّها تتَّجِه نحو غاية، كما هو كلّ شيءٍ في الحياة يتَّجه نحو غاية ما، فاللَّاوعي دائمًا منشغل بخلط محتوياته وإعادة تجميعها، وتلك الفعَّاليَّات وإن كانت تحدث بعيدًا عن تحكُّمات الأنا (الشّخصية الواعية)، إلّا أنّها ليست في حالة انقطاع عنها، ولا هي مستقلة تمامًا، وحال غير هذا الحال سيكون علامة مرض.
لذا لا يمكن اعتبار الأحلام نشاطًا عديم الجدوى وبلا هدف.
وهي دائمًا ما تتقدم قليلاً بما تتضمنه من أفكار جديدة عن وعي الحالم.
وكونها تحدث بصورة تلقائية فإنّ هذا يكسبنا فهمًا موضوعيًّا أعمق لمحتويات أعماقنا المنسيّة، فهي نظامٌ ذاتي يعمل على تنظيم المحتويات والمشاعر المكبوتة، وإعادتها إلى مسار طبيعي وصحيح يتوافق مع الشّخصيّة الحقيقية للحالم.
وهنا لا بدَّ من التَّوقُّف قليلاً عند "اللَّاوعي الجمعيّ" وهو مفهومٌ يحمل فكرةً لافتة جدًّا، ومثيرة للجدل، اجترحه "كارل يونغ" مؤسِّس علم النَّفس التَّحليليِّ فِي مَعْرِض اختلافه مع زميله "فرويد" حول بعض مفاهيمه وأفكاره التي اختزلت كافَّة اَلدَّوافع الإنسانيّة في الغرائز الفطريَّة للذَّات اَلدُّنْيَا "الهو"، وَنَحت جانبًا تأثير عوامل الثَّقافة والتَّربية والبيئة والجينات الوراثيَّة على الشَّخصِيَّة.
حيث اعتبر كارل يونغ أَنَّ النَّفس البشريَّة تتكوَّن من ثلاثة أَجزاء:  الأنا، التي يحددها يونغ بالعقل الواعي، وهو المسؤول عن إحساسنا المستمر بالهوية طوال حياتنا، واللاوعي الشَّخصِيّ، واللَّاوعي الجمعيّ.
وهذا الأخير هو شكلٌ متَميِّز عن اَللَّاوعي الشَّخصيِّ، حيث يقرِّر فيه أَنَّ البشر يرثون إلى جانب الخصائص الفسيولوجيَّة، أنواعًا وأَنماطًا لاواعية من التَّجارب والخبرات البشريَّة المشتركة التي يتمُّ ترميزها في اَلذَّاكرة منذ الولادة، أَيْ أَنَّها فطريَّة، حيث تثير تلك اَلنَّماذج الأصليَّة (Archetypes) والصُّور البدئيَّة التي تظهر تحت أَشكالٍ مختلفة في حياتنا ردود أَفعالٍ متشابهة لدى أفراد الجنس البشريِّ، وذلك على اختلاف الزَّمان والمكان، وفي جميع الثَّقافات.
وغالبًا ما تتجلَّى تعبيرات تلك النماذج الأصلية من الرُّمُوز والصُّور والشَّخصيَّات والأحداث العالميّة المشتركة في الأحلام والفنون والأدب والسُّلوك الجماعيّ للمجتمعات.
ومنها على سبيل المثال: صورة "الأَب" والَّذي يُمَثِّل السُّلطة والحماية، "الأمُّ" التي تُمثِّل الرِّعاية والعناية، أَيْضًا "البطل" الّذي نشاهده في الأساطير والحكايات الشعبيَّة رمزًا للشّجاعة والانتصار على الصِّعاب.
وهناك المخادع الذي يمثّله غالبًا مهرج أو ساحر. ويتحدد دوره في إعاقة تقدم البطل وإثارة المتاعب له،  و"الرَّجل العجوز" الَّذي يمثِّلُ الحكمة والخبرة.
إن النماذج الأصلية ميلٌ غير مكتسب لتجربة الشيء بطريقة معينة، لذا تستقر الحالة النفسية للفرد كلّما كان النمط البدائي الذي يحمله في لاوعيه منسجمًا ومتطابقًا مع صورته الفعلية التي تمثله في الواقع. 
ولأَنَّ تلك الأَنماط والرُّموز وَالشَّخصيَّات والأحداث والصُّور الآتية من أَعماق التَّجربة الإنسانيّة ستتفاعل حتمًا مع المحتويات الفرديَّة، بل وستلعب دورًا أَساسيًّا في تَطَوُّر الشَّخْصِيَّة وتوجِيه سلوكها الحاليّ، في أبعادٍ يصبح فيها ماضينا البدائيَّ حجر زاويةٍ في تكويننا النَّفْسيّ.
فإنّ هذا يستلْزم بالطَّبع بداية، فهم تلك النَّماذج والرّموز اللَّاواعية، ثُمَّ دمجها مع وعي الفرد بصورة صحيحة لغاية تحقيق التَّكامل والتَّوازن والاستقرار النَّفسيِّ والعاطفيِّ والاجتماعيِّ للذَّات.

لذا قام يونغ بتحديد أربعة نماذج أصليَّة رئيسيَّة، تمثِّل رحلة النّفس، من حالة اللّاوعي إلى مرحلة تحقيق التَّفَرُّد أو الإدراك الكامل للذّات.
١- (الظّل): الجانب المظلم من الذّات حيث تكون الأفكار والعواطف والسّلوكيّات التي لا تريد الأنا الواعية الاعتراف بها أو التعبير عنها بشكلٍ علني؛ فتبقى قابعة في الظّل.
٢- الأنيما: وهي(روح الجانب الأنثويّ المكبوت في نفسيّة الرّجل) .
والأنيموس: وهو (روح الجانب الذَّكريّ المكبوت في نفسيّة المرأة).
حيث تؤثر تلك الصّور والأنماط والصّفات التي تمثّل المرأة المثالية في الرّجل الآنيما، والرّجل المثالي في المرآة الآنيموس، على الاختيارات العاطفيّة لكلّ منهما، وتفهمه لطبيعة الآخر.
٣- الشّخصية: الجزء غير الواعي الذي يعتمده الفرد لتشكيل صورته الخارجية أمام الآخرين..
والطّريقة التي يقدم بها نفسه إلى العالم بالتوافق مع توقُّعات المجتمع ومعاييره، وتجارب الشخص واحتياجاته في الحياة، وظروفه الاجتماعية والثقافية؛
فالشخصية هي قناع للعقل الجماعي، وليست الذّات الحقيقية للفرد، لكنها صورة معادية للظلّ.
٤- لتأتي أخيرًا الذات: وهي مركز الشخصية، والكلّ الذي يشمل جميع ما سبق، والمرحلة النِّهائيَّة من تطوّر النّفس "التَّفرُّد" والذي يعني تجريد الذّات من الأغلفة الزائفة للشخصية، وتحريرها من سطوة القوّة الإيحائيّة للصور البدائيّة.
والذّات على حد تعبير يونغ هي "الإنسان الكليّ الخالد الذي يمثّل التّكامل المتبادل بين الوعي واللّاوعي.
إِنَّ ذاكرتنا اللّاواعية قوَّة جبَّارة تعمل باستمرار، بل إنّ معظم معالجة المعلومات تتمّ من خلالها لأسباب تتعلق بالكفاءة.
تلك الكلمة التي ستأخذنا الآن إلى أحد أهم اهتمامات علم النفس المعرفي وهو الدور الذي تقوم به الذَّاكرة الإجرائيَّة طويلة المدى التي تعتبر فرعًا من الذّاكرة الضّمنيّة غير الواعية، في عمليتي التَّعَلُّم والتَّدريب، على وجه التَّحديد: العادات الحركية، والمهارات التي اكتسبناها عن طريق التّكرار والتّدريب المستمر على فعل أو نشاط معين..
بحيث يصبح بإمكاننا القيام به وانجازة بصورة آليّة أو تلقائيّة، دون أن يتطلب الأمر أيَّ تَدخُّل واعٍ منّا، أو استهلاك الكثير من التّفكير والانتباه.
وصولًا إلى اللَّاواعي التَّكيُّفيِّ الذي يُمكِّن العقل من معالجة المعلومات والتفكير بكيفِيَّة التَّصرُّف بسرعة كبيرة بطرق تحفظ وتغزز بقاء الكائن الحي عند التعرض لخطر مفاجئ أو حين حدوث تغير حاد في نمط البيئة المحيطة به.
وعمومًا يُمكن القول: بأنّه كلّما تمّ تكوين مفهوم برؤية أكثر تماسكًا، وقربًا من المنطق والعقلانية، يجرِّد اللّاوعي من لقب "وحش الأعماق" المتحكّم المطلق بالنّفس، والمصدر الأساسي للسلوك البشري.
فإن هذا يعني بالمقابل إِمكانيَّة وصول وتواصل أكبر يتيح للوعي اكتساب قدرٍ أكبر من البصيرة والفهم، وإعطاء دورٍ أكثر فاعلية لِلتَّفكير التَّحليليِّ المنطقيّ في إدارة الذّات..
وهو أمرٌ إيجابي بكل تأكيد وفي منتهى الأهمية؛ حيث أنّ اللّاوعي وأن كان يتفوَّق على العقل الواعي بالسّرعة والكفاءة في معالجته للمعلومات إلا أنّه أكثر عرضة للوقوع في ما يسمى بالتحيّز الضمنيّ (Implicit bias) وهي القوالب النَّمطيَّة والمعتقدات والمواقف والأحكام المسبقة التي يحملها الأفراد في عقولهم ويستخدمونها دون وعي ضد مجموعات معينة من النَّاس، وكثيرًا ما تَتَعارَض هذه التَّحيّزات مع القيم الواعية للفرد، منها على سبيل المثال: التَّحيُّز الجنسي، العرقيَّ، الدِّينيَّ، والاجتماعيَّ.
كذلك التَّأثُّر الأعمى بالأحداث اليومية، والأساليب الاقناعيّة والدّعائيّة التي تستهدف وتخاطب عاطفة المتلَّقي ورغباته الدّفينة للحصول على استجابة عاطفية، أو خلق انطباعٍ غير واقعي يماثل مقدار المبالغة والتهويل في المادّة الدّعائيّة.
فما أجمل أن ينصفنا النّسيان هنا بما يُجدي، فلا نعوذ نذكر أيًا منها!!.
ومؤكَّد أَنِّي لا أقصد ذلك النّسيان الذي يحدث نتيجة لخلل عضوي او نفسي؛ لأنه من أسوأ التجارب التي يمكن أن نمر بها، خاصّة عندما يؤثر سلبًا على قدرتنا على التعلم وانجاز المهام اليومية.
لكني أقصد النسيان الذي يعتبره العلم الحديث وظيفة من وظائف الذاكرة "الفلترة"؛ والذي هو بكلّ تأكيد نعمة تفوق كلّ تقدير.
فالجزء ما قبل الواعي من العقل قد يتناسى بعض المعلومات لأنها عديمة الفائدة والأهمية، أو يستبعد عمدًا الذّكريات المزعجة والمؤلمة، من أجل تجنب المشاعر السّلبية المرتبطة بها فلا يخرجها إلى المستوى الواعي.
ومن مدهشات النّسيان وأحواله أيضًا، عندما يصعب علينا اتخاذ قرار ما، ونقع في دوّامة الحيرة والتَّردُّد، رغم أهمية الموضوع بالنسبة لنا، وشدّة التّركيز عليه، واستمراريّة التّفكير بشأنه وذلك إلى درجة نشعر فيها بالفعل أن هناك ما يحول دون الوصول إلى نقطة حاسمة تتنهي إليها محاولاتنا في تحديد الأنسب والأصلح.
وهذا يحدث إمّا بسبب الغموض، أو التّشويش، أو الضّغط النفسي والعاطفي، أو نقص بالمعلومات، فيتم تعويض ذلك بعفويّة وتلقائيّة، وعلى الأغلب بصورة مفاجئة، وفي ظروف غير متوقعة، ومعالجة غير واعية للمعلومات؛ ليكون الناتج أخيرًا قرارات وحلول قد تبدو لنا للوهلة الأولى غير مؤكدة، لكن إذا ما أخذناها على محمل الجد، وأمعنا فيها النظر في ضوء ما نعرفه ونتذكره؛ سنكتشف كم هي صائبة ومبتكرة وابداعيّة إلى أبعد حدّ متخيَّل..
وكأن هناك قوّة خفيّة انتزعتها لنا انتزاعًا من مجاهل النّسيان، وأزالت عنها حُجب الأوهام والتفاصيل المرهقة..
إنّها ببساطة قوّة الحدس!.

الأربعاء، 15 مارس 2023

إنّها تطفو...


 
لا يمكن اكتساب أيّ نوع أو مقدار من المعرفة الحقّة، إذا ما انتهينا عند نفس النقطة التي بدأنا منها، وكأننا ندور في دائرة مفرغة... 
هذا حتمًا ما سنتوصل إليه لو تم التعامل مع الإشاعة (الاسم الدعائي للكذب) باعتبارها معلومة صحيحة أو صادقة. 
وذلك عندما يقدم البعض - للأسف- على نشرها بشتّى الطّرق والوسائل، دون أنْ يدَّخِر جزءًا من جهده المهدور بلا فائدة؛ للتأكّد والتّحقق من صحَّة محتواها!. 
كذلك التصورات الواهمة، والتّحليلات والاستنتاجات الخاطئة، التي يتلاعب من خلالها هؤلاء بمحتويات اللاوعي؛ لتحقيق غاية ما، مستغلين خوف المتلقي، وتعطشه لمعلومات أو تفسيرات مقنعة يُداوي بها تساؤلاته القلقة... 

زاعمين أنَّ تخميناتهم تلك، رغم ما يعتريها من التَّناقض والتَّخبُّط، نابعة من الحقائق والمعلومات التي يمتلكونها.

تلك التي لم تلحظها حواسُّهُم حتى تكتشفها عقولهم، فكيف لتحليلاتهم أن تتَّسق بيانيًا ومعرفيًا مع الحقائق الموضوعيّة.
وتلك الأخيرة هي افتراضات لها هيبتها، ومنطقها الّذي يُبيِّن حدودها ويثبت صحتها بالبرهان والدَّليل والتّجربة
، بحيث تفرض نفسها، وما يستنبط عنها ضمن تلك الشُّروط، فلا تتجاهلها أو تتجاوزها مهما اشتدَّ الغموض وتضاربت التّفسيرات، وهذا ما جعل المنهج العلمي وأدواته في تطور مستمر عبر العصور.  

كذلك ما يَتِمُّ قوله بدافع ملء الفراغ!. 
والفراغ هو الحالة التي تَنْشَط فيها التّفسيرات من منظور المؤامرة مثلًا؛ 
وهنا لا بدّ من طرح السؤال المنطقيِّ التَّالي: 
كيف تسنَّى ل"بحر العلوم"و "بئر الأسرار" 
 أن يعلم بوجود المؤامرة أساسًا، 
هذا عدا الإسهاب بالحديث التفصيلي البارد عنها!!
 يا من تدّعون أنّكم وجدتموها (أي الحقيقة) من بعد صرخة آرخميدس الخالدة...  
احترموا عقولنا..
 #متنبِّئ_زلازل 
#مؤامرة_تكتونية
 #وجدتها_Εύρηκα
 #إنها_تطفو

السبت، 11 فبراير 2023

ومضة وعي

 
 
شيءٌ ما، يخصّك وحدك، يومض في جسدك، يربطك بما حولك، فيصبح العالم كلّه مُضَاء.
مثل فتيلة الشّمع إذْ تَتَوسَّط عناصر اشتعالها، فتنير بلمسة هواء غير مرئية عتمة المادَّة.
ومضة وعي..
تجعلك بالفعل موجودًا في حياتك. تنشد بالتفكير والتحليل والتقييم فهم كل ما تعيشه ذاتك المدركة؛ وتحديد القرار الأنسب لك والأكثر عقْلانيَّة، بناءً على معلومة أو تجربة سابقة محفوظة في ذاكرتك.
ومضة وعي...
ترصد بها تيّارات الأحداث الحسّيَّة المدجَّجة بالمشاعر المتحفِّزة وهي تنساب بشجاعة عبر شِعَاب الإدراك النابضة بديناميكيّة الحياة.
بينما تحمل لك ومعك مسؤولية حُرِّيَّتك، دروب إرادتك، قلق تساؤلاتك، لغة أحلامك ورغباتك، معالم شخصيتك، إيقاعات أحزانك وأفراحك، ندوب هزائمك، وألق انتصاراتك.
ومضة تسمو بك فكريًا وشعوريًا إلى المعرفة الحقيقية، وتضعك في خانة مكافئة لقوى الكون، مدركًا معطيات واقعك، متصالحًا مع طبيعة ذاتك، حتى لو حشدت الظلال ضِدَّك كلّ انعكاس يَزفِر بترددات ضجيج مخاوفك وهواجسك..
ومضة واحدة ستعطيك هذا اليقين بأنّ لا شيء بإمكانه أن يخدش مرآة مفاهيمك، إذا ما استطعت الوصول إلى مرحلة تُحسن فيها إدارة ما لديك بِالانْتباه والتَّعقُّل والتَّرتيب...
مجرد ومضة وعي...
وستشعر أن زمانك كلّه ملكك...
وأنّ لوجودك بصمة حضور انبثقت من هذا الالتصاق الجوهريّ بمغناطيسيّة الفكرة...
تلك التي لا تحتمل الفراغ، ولا تقبل قسمة الفناء والتلاشي.
ولم تكن بالحظّ والمصادفة على الإطلاق!.

السبت، 31 ديسمبر 2022

كل عام ونحن معًا

 

تجتمع خيرات السّماء والأرض:
 في المطر، وينابيع اللغة، وبين يدي الشوق،
وفي صحوة الإحساس، وعظمة الأخذ والرد بين سحابتين متجاورتين أشعل البرق فيهما وبينهما جذوة العشق. 
وعندما يبوح لي صوتك بسرّ طلتك المبتسمة...  
ويقطف لي من جنّة قلبك عبارة " كلّ عام ونحن معًا" لتطوف حول القلب كالأغنيات، وتعيش المشاعر في لحظتها الخالدة مجدها المستحق...
تلك العبارة المتناغمة التي لا تكلُّ الرّوح ولا تملّ عن ترديدها، ذات الحَظّ الجزيل من الإنسجام الذي يجعلني أذهب من ذاتي إليك..
 ومن سكون الحياد إلى صخب ذلك الجزء الضائع مني في انتظارك...
والذي أجده فيك ومعك... 
وكيف له ألّا يتحقق بحضورك... 
وأنت من تعلمه بظاهره وباطنه..  
وفيه اسمي الممزوج بلهجة البحر... 
وتاريخ ميلادي المصقول بحقيقة عينيك... 
وارتقاءات الكلام ومدارجه... 
وملامح روحك الأنيقة المرسومة على كلّ صمتٍ ومقال..  
والموسيقى التي تجعل إيقاعات الكون في قلبي تهبط وتعلو كنارٍ متقوّمة بالألفة ووهج الحكاية..
وعمق أنثوي يحررني من سطوة آلات الوقت والزمان... 
فإذا ما تخاطب القلبان، واشتعلت النبرات... 
واقترنت رغبات الخير والصحة والسعادة بحروف اسميّنا التائقة إلى ضيائها واتقادها وجنونها... 
تبسّم العام الجديد بملء إرادته... 
وتلاقت فصول العمر...
كما العناق. 
كما الصدق الذي يحررنا من قيود الغاية وينأى بنا عن تيارات المستحيل. 
إلى استدارة حنين تسحق غطرسة الزوايا الباردة في الذاكرة... 
وفرح آتٍ من عينٍ صافية لا يترسب في قاعها طين الضجر والكآبة. 
إلى عفوية خاطرة استحالت على الشفاه جوهرًا أثيريًا. 
وثقة تعيد إلى الأحلام ألقها التنبؤي..
 ثم مسارات حبٍ يرسم بزخم أسطوريته وجودًا عاكسًا للضوء، للعيد، للاحتفال،
لكلّ هذا الجمال الكائن حيث تكون أنت.. الحبيب، والدليل، والرفيق، والقلب المحب الفطن المتيقظ....

الأربعاء، 16 نوفمبر 2022

في منظور الوقت المناسب


 
لا شك أنَّ للحقائق التي يستخلصها الوعي من خلال تأمُّل الظَّواهر والصُّور والنَّظريَّات والفرضيات الكوْنيَّة التي يمتزج فيها الواقعيُّ بالاحتمالات الممكنة، فاعلية مهدئة ومهذَّبة للنَّفْس لا تنافسها فيها أيُّ تركيبة بلاغية أو علاجيَّة أوجدتها الظُّروف البشريَّة على مرِّ العصور.
حتَّى وإِن كان مدى الرُّؤية في هذا المجال أَشبَه بخيطٍ رفيع جدًّا لا يتجاوز حجم الإبرة التي دائمًا ما تستفزنا إلى البحث عنها في كلِّ كومة قشٍّ تُصادفنا.
فإِن ذلك لا يُنقِص شيئًا ممَّا نَرَاه ولا يُناقِضه، بل يُعطِيه قِيمة أَكبر، سواء كان من خلال نماذج رياضية تصف خصائص هذا الكون الخَلاَّب، أو صورة واقعية من متحف الكوْن، وأرشيفه الضوئيّ تخبرنا بما هو حقيقي حوْلنا!
فَتَأمَّل معي إِذًا تلْك الخِفة المسْتحيلة!
فالْكَوْن المرئي يا صديقي يَطفُو على محيط مِن الرَّهْبة، أَسرار عمْلاقة تسبَح في مادَّة لا مرئية، لا تستطيع عيوننا المجرَّدة فكَّ غموضها.
في المقابل سيُعْجِزنا الضَّوْء القادم إِليْنا عن رُؤية حاضر هذا الكون والإحساس به.
كما النجوم التي تظلّ في مَنظُور مُراقِب على الأرْض، متلألئة برشاقة الماضي كأنَّها فِي زُرقَة شبابها.
بينما هي في مكانها الواقعيِّ تقاوم بزيادة تفاعلات القلْب ما اعترَى غلافها الخارجيّ مِن برودَة واحمرار، والذي بدوْره يبدأ بالتَّمدُّد للإفلات من ثقلٍ جاذِب، وتأجيل انهيارٍ حتميّ إِلى الدَّاخل.
ورغم أنّها ليست في حِرْزٍ حريز من الفناء وتداعياته، إِلَّا أَنّها تُوَاصِل الانْدماج؛ لتظلّ ظاهرة سماوية تُنتج الطَّاقة وتبدُّدها في الفضَاء.
ولتأْخذ كلَّما تَطلَّعَت إِليْها العيون ليلًا أماكنها المعتادة، كنقاطٍ ساطعة ومتوهِّجة على صفحة السَّماء.
كلُّ ما هو حولنا مثير للدَّهْشة ويستحقُّ التأمّل والمتابعة؛ لإدراك الصُّورة بكامل تفاصيلها المبهرة، ودقائقها البديعة..
لكن بتَأنٍّ وحذَّر وعلى رؤوس الأصابع؛ كي لا يمسّ وعينا شيءٌ من عدائية الكويكبات والنَّيازك، تلْك الصُّخور المثْقلة بالميِّت من معادن الكوْن وعناصره، عنْدما تَتَصادم بعشوائيَّة، أو تتساقط  كأنَّها شراذم مُتناقضة.
وهكذا، حتى تعانق عقولنا أولى المشاهد القادمة إلينا من بداعة تلك الحركة الدَّؤوب في مداراتٍ تتجه رغم التَّغْيرات نحو الانْتظام والثَّبات.
ويتلاشى خوفنا كلّما تقدمنا بوعينا أكثر، ووصلنا إِلى فهم هذا التوازن المذهل بين الحالة الثابتة من السقوط الحرّ في مجال جسم آخر، والسرعة المناسبة التي تتشكل بها المدارات حوله.
والتي اتضحت واستقرت في أذهاننا أخيرًا بمفهوم "الجاذبيَّة".
فمن نظرياتٍ ثورية، وقوانين أَولية حسمت الخلاف القديم لصالح مركزية الشَّمس، ووصفت مدارات الكواكب الإهليجية حوْلها. لتأتي بناءً عليها قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، أو ما يتم اعتباره الآن 
(تفسيرًا ميكانيكيًا أو كلاسيكيًا).
والذي يرى أنّ الأجسام الساكنة تبقى في حال السكون، ولا تبدأ في التحرك تلقائيًا.
كذلك الأجسام المتحركة في الفضاء، تبقى مستمرة في الحركة بخطٍ مستقيم، بنفس السرعة، وإلى الأبد ما لم تؤثر بها أي قوة خارجية.
لكن وقوع الكواكب تحت تأثير جاذبية الشمس التي تجذبها نحوها، يجعلها تتحرك في مدارات دائرية تقريبًا حولها.
بينما تبقى مستقرة في مساراتها تلك بفضل قوَّتين متعاكستين ومتساويتين: الأُولى الجاذبيَّة ومركزها الشَّمس، والثَّانية قوَّة القصور الذَّاتيّ للكوكب.
لكن المفاهيم تتغيَّر كلّما ظهرت التَّناقضات بين التَّنبؤات الحسابيَّة والملاحظات الرَّصديَّة.
حيث كان كافيًا عدم تطابق معدل الانحراف المرصود في نقطة "الحضيض الشمسي" لمدار كوكب عطارد، الكوكب الأقرب إلى الشمس، والأكثر تأثرًا بجاذبيتها، مع القيمة النظرية التي تمَّ احتسابها بقوانين نيوتن؛ للتأكد من أنّ فهمه لماهية الجاذبية بحاجة إلى المراجعة والتصحيح.
 ولينتهي التناقض أخيرًا بين يدي النَّظريَّة النِّسبيَّة العامة التي قدمت تفْسيرًا منطقيًا ودقيقًا لهذا الانحراف.
فالجاذبية إذًا ليست قوَّة بالمعنى الكلاسيكي، تعمل بشكل مباشر على مسافة بين جسمين، في زمن مطلق، ومستقل عن أيّ مدرك، ويتقدم بوتيرة ثابتة في جميع أنحاء الكون.
بل قوة تصف التفاعل الناتج بين كتلتين
وما نختبره كجاذبيَّة هي خاصِّيَّة هندسية للواقع الرُّباعيِّ (الزمان والمكان ) والذي تتحرَّك فيه الأجسام السَّماويَّة، وتتسبب كتلتها وطاقتها في انحناء أو تَشوّه نسيج الزمكان المحيط بها.
مما يعني أن الجسم حين يسير في خطٍّ مستقيم، أي يتبع أقصر مسار بين نقطتين وفق منظوره الخاص لكن عبر مساحة منحنية في الزمكان؛ فإن هذا يجعله يبدو لنا كأنه يسير في خطوط منحنية، ما يعطي إِحساسًا بأنَّ الأجسام تنجذب إِلى بعضها البعض.
حتى الضَّوْء الذي ليس له كتلة، وينتقل دائمًا في خط مستقيم وبسرعة ثابتة، سيتبع المسَار المنحني للزَّمكان أثناء مروره في مجال الجاذبية للكتل الضخمة لأن لديه "طاقة وزخم"، ويعرف هذا التأثير باسم "عدسة الجاذبية".
وما تخبرنا به النسبية أيضًا أن الزمن المتشابك مع المكان كبعد رابع يتبع إيقاعًا نسبيًا.
أي أنّه يتدفق بمعدلات مختلفة في منظور أشخاص مختلفين اعتمادًا على معدل تسارعهم، فكلما زادت السرعة، أو اقتربنا من مركز الجاذبية، مرّ الوقت بشكل أبطأ.
ومع التَّسليم بأنَّه لا توجد نَظريَّة صحيحة مئة بالمئة، أو لم يعترِها النَّقص والارتباك أَثناء تفسيرها لقوى الكوْن، يظلّ الأمر المثير للحيرة والدّهشة حقًا، هو أنّ النظرّية النسبيّة التي تصدّت لِفَهم الكوْن في أبعاده الكبرى كالنُّجوم والْمجرَّات، لا تتوافق مع ميكانيكا الكم، الدِّعامة اَلأُخرى للفيزياء الحديثة، والتي تبحث في أَصغر أبعاده: كالجزيْئات والذَّرَّات والدَّقائق تحت الذَّرِّيَّة حيث تتناقض مع النسبية بمفهومها المطلق للزمان، وواقعها الذي يعجّ بالاحتمالات التي لا يمكن تفسيرها أو التنبؤ بها؛ لشدة غرابتها
لكنَّنا في كوْنٍ تتكامل فِيه الأضداد، ولا يضطرب ويختلُّ نظامه بِالاستثناءات.
وكأنَّ تلك الاسْتثنائيَّة هي مُتَنفسٌ لكلِّ جرمٍ في هذا الكوْن، وعلامته الفارقة.
فإذا ما انتَّوينا البحث بعيون عقولنا عمَّا يُتمِّم دهشتنا؛ فلن نَجِد ما يجعلنا نتخطَّى كوكبنا  بكل ما يحويه من الظروف الملائمة للحياة والعناصر اللازمة لها، وما نعلمه وما لا نعلمه من بدائع المخلوقات، والذي يتألَّق تميُّزًا بالقصة الفريدة لكلِّ حيٍّ يتنفس، ويزداد جمالًا بصلواتنا، وأفكارنا الخالدة، وتعاطفنا التِّلقائيّ.
أرضنا التي إن ضاقت مرة في تصور من اتخذ "قلة الصبر" حلًا وسبيلًا، أو غصَّت مرات عديدة بالانفعالاتٍ اللحظيّة التي تستعجل النهايات الحاسمة، وتنسحق بفعلها سعادة النفوس في صراعات مريرة وشرور ثقيلة.
فإنها تتسع على امتداد الكون في عيون الملْهمين من أبناء الحياة –بفتح الهاء أو كسرها– الذين تسري في عروقهم حرية الروح والفكر، فتملأ قلوبهم بنبضات إرادة أصيلة تدفعهم إلى التعمّق وعيًا وعلمًا، والعمل بمهارة تفوق كل نمطٍ وتقليد..
وهنا، لا بدّ أن يقفز إلى أذهاننا سؤال مشاكس وهو: إلى أين يمكن أن تصل نبضات وجودنا المسافرة بالموجات الراديوية في الفضاء الشاسع، بحيث تتمثل صورة كوكبنا كاملًا، في تمام إشراقته كما يكون "قمر الحصّادين" في الخريف؟!
لكن سؤالًا كهذا، تعبق فيه مركزية الحياة وسط مسافات هائلة لا تستطيع عقولنا المحدودة استيعابها، سيظلّ دون أدنى شك بلا إجابة..
وربما علينا الاكتفاء عنه بهذا السّكون الغامر حولنا

وفي الواقع ليس مهمًا أن نعرف إلى أين.
حقًا لا يهم ذلك، وحاضرنا معنا، كعصفور اليد.
المهم أن نهتم بأرضنا، ونحافظ عليها.
أن نحب بلا حدود...
نصحح أخطاءنا، ولا نؤذي بعضنا بعوادم حضارتنا.
أن نتقدم في مسار الزّمن بما يليق بقيمة حياة يفتقدها كوننا المنظور!
إذ مهما تعاظمت وتعملقت ذخيرتنا من قوى الكون وأزمنتة ومادته، فإنّها في حسابات الكتل والمسافات تكاد تضيع وتختفي إذا ما تمت مقارنتها
بامتداد شعيرة شمسية عالقة في مجالها المغناطيسي!.

________
*صورة تبين فرق الحجم الهائل بين البروز الشمسي وكوكب الأرض.


 

الخميس، 6 أكتوبر 2022

هذا الحب... وتلك القُبلة على الجبين

 

 
دون إعادة التفكير، أو التردّد لحظة. 
كنت دومًا أصفهم - هم ومن ماثلهم- بالغرباء.
 فالحقيقة أنَّني منذ بدايات الوعي، 
لا أتبع سوى تلقائيّة روحي. 
تلك النائية بحريتها وسلامها عن اتجاهات التعقيد التي تبدّد نقاط الاتِّصال الحقيقي.
  والبعيدة كل البعد عن صخب المظاهر المشبعة بالتَّكلُّف والتَّصنُّع، حيث تقع مبادىء العقل والقلب في تضادٍّ مخيف...
غرباء... 
وليس لديَّ أَدْنَى شكٍّ في اِسْتمراريَّة ذلك .. 
إذ لم تكن الغرابة في مرورهم العابر على ثُكْنَات القلب، ومغزى الكلمات، في ظرفيَّة لم ولن تكون لصالحهم أبدًا، حيث كان ذلك في حضور سيِّد القلب "أبي". 

إنّما فيما يحملون من "عجائب" وجهات النظر، والتي تعكس بدقة سطحية التفكير والاستنتاج لديهم، وقد تَرَسَّبَتْ جميعها من طباع وأذواق فظة وغليظة في كلامهم الْمُوَجَّهِ لي.

عندما ضجَّت مفرداتهم بنبرة متخمة بالسّماجة والعتمة قائلين: 

"سيأتي الوقت الذي تدركين فيه، أن التَّعبير بِأبْجَدِيَّة الحبِّ، والتغني بمضامينه ومعانيه، ليس إلا سِمة وهمٍ زائل.! " 
 نعم، كان هذا ما تراءى لهم، وأعلنوه صراحة، وعمَّموه كقاعدة لِلتَّعبِير وَالتَّشْكيل لا تقبل الاستثناء؛ ليصبحوا غرباء. 
وما زالوا يتبعون السَّبب الذي صار به كلّ ما يقولونه بلسان تلك التَّقْليعَة الغريبة والمزعجة في التَّفكير لا يتعدَّى لحظته الأولى.. 
إذ أنها لم تستلم من الوجود إلا صداها.  
وقد غابت ملامحهم، وتلاشت تمامًا مقاصد كلامهم من ذاكرتي بمرور الْأَيَّام...  
لكن لم تغب تلك الواثقة، العارفة بمكنونات القلب، المؤمنة بِإِيجابيَّة الحبِّ وآصالته في هذا الكون. 
والتي لأجلها أتذكّر. 
ألا وهي ابتسامة أبي الماسيَّة التي لم تفارق وجنتيه حتى في أثناء ردّه عليهم.  
حين قال لهم ببساطة لا تنثني.. 
وبديهة ساحرة لا توازيها ظنونهم مهما حاولت وارتقت: 
وهل يحيا الإنسان، ويستقيم حاله بلا قلب يتوسط كيانه!. 
وكيف يتحقق له العيش كما يجب، مِّن دُون نبضٍ حرٍّ يتجذَّر في أعماق وجدانه! 
هذا ما قاله أبي فقط، بينما كانت نظراتهم الهاربة من وجه الحقيقة تحدّق في العدم..  
وكنت أنا..  
أتنفس الشّعور من قلبه النَّقِيِّ قوَّة، 
ثم أحرقها حبًّا على جبينه الدُّرِّيّ حين أقبِّله ♾️

الأحد، 11 سبتمبر 2022

التشاؤم في أفضل العوالم الممكنة

 

 هناك اعتقاد شائع بأن التّيقُّظ والتفاؤل
 لا يجتمعان لذات واحدة في نفس الوقت.! 
أو أنّه كلما اتسعت مساحات الوعي والإدراك، زادت تعاسة الإنسان وتفاقم شقاؤه.  
إذّ أنّ التفاؤل في عالمنا المضطرب يا سادة يا كرام "جهلٌ مزدوج" وشكلٌ من أشكال الوهم.!  هذا ما يُرَدِّده أصحاب هذا الاعتقاد مع كلّ مناسبة، أو حادثٍ يؤيد وجهة نظرهم تلك عن التفاؤل.!  
وبالمقابل هناك من يرى أن التّشاؤم وأعراضه المرهقة للرّوح والبدن مرضٌ يستوجب العلاج والتداوي.  
ولأن هذا الانحياز التأكيدي أو الانتقائي مغالطة منطقية لا تغتفر عند كل ذي رأيٍ سديد... 
كان لا بدّ من إلقاء التّحية على جموع المتشائمين والمتفائلين دون استثناء، والذين بالطبع يزداد أو يتناقص عددهم حسب تبدّلات الظروف والأحوال.  
ثمّ إمعان النَّظر في هذين المفهومين، من خلال أشهر موقفين متعارضين، أو بوصفٍ أدق "مختلفين" تناولا هذه المسألة نقديًا وفلسفيًا. وهو ما يعني التمركز في منطقة وسط بين تفاؤل الفيلسوف "لايبنتز" ، ورواية الكاتب الفرنسي ڨولتير "كانديد أو التفاؤل" التي كتبها عام ١٧٥٩ والتي تستحق بالفعل التوقف عند كل تفصيلة وردت فيها. 
لكن ليس قبل أن نتوجه بانتباهنا إلى نظرية الفيلسوف والرياضي الألماني "غوتفريد لايبنتز " الخصم الفكريّ  لڨولتير في روايته الشهيرة.. 
حيث يقول هذا الرّجل الموسوعي بثقة يدعمها "اليقين" الملازم لكل فكرٍ رياضيّ: بأنّ "كلُّ شَيءٍ سيَسيرُ إلى الأَفْضل في أَفْضل العَوالم الممكِنة."  
و"العالم كلٌ متناغم" وهو كما يشرحه لايبنتز عبارة عن "ذرات روحية" متناغمة في نظامها وتنوعها. 
وتلك الذرات أو العناصر أطلق عليها لايبنتز اسم "المونادات".  
والمونادة (μονάδα) أو (μονάς) في اللغة اليونانية القديمة والتي تعني وحدة/ تفرد. 
هي وحدة روحية، أو جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركبات "الأجسام"، وهذا الجوهر البسيط، لا يمكن تصوره إلا بالفكر وحده، غير مادي، لا شكل له، ولا يتجزأ، ولا يفنى ولا ينحل، ويحمل مبدأ تغيره في ذاته.
إذًا فالطبيعة كلها ممتلئة بالحياة، والمونادات تدرك الكون بأكمله باستمرار من وجهة نظر أو زاوية خاصة بها، مثلًا النفس "وحدة" الجسم، والجسم وجهة نظر النفس. 
فهي إذًا مرآة للوجود، والتي تنعكس عليها صور كل الأشياء؛ وذلك لكونها متصلة، وتعمل بتناغم؛ والذي مرده إلى انسجام أزلي مسبق وضعه الخالق فيها. 
لكن ڨولتير، لم يرَ الأمر بهذه الطريقة. ولم يقتنع بأن "كل المعاناة البشرية هي جزء من خطة كونية خيرة ". 
وهذا ما سنجده في كلّ فصلٍ من فصول رواية "كانديد"، الشاب الساذج الذي تربى في قصر خاله البارون وتلقى تعليمه على يد "بانغلوس" أستاذ الميتافيزيقا الذي يؤمن بالتفاؤل، وأنّ ما يحصل لنا دائمًا هو الأفضل. 
وهذا بالطبع في نقد ساخر، واضح، وصريح لأفكار "لايبنتز".  
فهم سطحي لفكرة مجرّدة يواجه بها كانديد وحشية العالم الخارجي بعد انكشاف أمر عشقه لإبنة البارون "كينوغيد"، وطرده من قصر البارون. أجمل القصور وأروعها على الإطلاق كما كان يصفها الأستاذ "بانغلوس".  
وهذا كي يتجلى لنا بتلك البداية التي اختارها ڨولتير بعناية؛ ما في العالم من سوداوية وبشاعة.. 
وليأخذ كانديد إلى مواجهة تخلو من  أبسط الصّفات الإنسانية السّوية، ونتابع بقلق وأسف تصرفاته وهو في أصعب الظروف عندما يكون محاربًا بائسًا في حرب عبثية، جائعا، مفلسًا، مطرودًا، مشردًا بلا وطن وبلا هدف ولا غاية، أو قربانًا في طقس غرائبي لدفع الشّرور والكوارث كالزلازل والبراكين. 
عنفٌ متبادل، قتل، وفوضى، وغياب كامل لروح العدالة، وصوتها في الضمير.. 
لا سيَّما أن الفترة التي تمت فيها كتابة "كانديد"، كانت قد شهدت أحداثًا تنوعت فيها الشّرور، وتكثفت بسببها المآسي بشكل مفزع. 
فهناك زلزال لشبونة المدّمر عام ١٧٥٥.
ثم حرب السنوات السبع التي بدأت عام ١٧٥٦ والتي اشتركت فيها معظم دول أوروبا. 
فكانت من حيث ما تركته من أثر قوي وصادم في نفوس الناس بشكل عام، وڨولتير الناقد الساخر بشكل خاص؛ دافعًا للتساؤل والبحث أكثر في ماهية الشّر، وجدوى وجوده.
لكن أكثر ما كان لافتًا للانتباه أثناء القراءة، وشدني بعيدًا عن العنوان الكبير  "التفاؤل" وما توقعت مقابلته في خانتي الضدّ والنقيض، وحتمًا سيكون التشاؤم، ورؤية وتوقع الأسوأ..  
كان الأسلوب الذي استخدمه ڨولتير  في سرد الأحداث العنيفة والسيئة. 
إذ لم تفارق الرّواية لحظة تلك "اللامبالاة" التي كانت جاثمة على صدر الكلمات كالكابوس. وذاك البرود الكئيب في تداول الحكايات بين الشخوص. 
فليس المهم هنا إثبات التشاؤم كأولوية وحقيقة لا مفرّ منها في هذا العالم الممتلىء بالشرور والتعاسة والنقص والحرمان.  
بل التركيز على شيء آخر!  
أسوأ وأشدّ فتكًا بروح هذا العالم وانسانيتنا.. 
كان ذلك واضحًا وجليًا، وتحديدًا في جزئية العاصفة قرب مرفأ ليشبونة، حيث طغت "ثيمة اللامبالاة" على كلّ شيء: سلوك الركاب على تلك السفينة المشؤومة، وردود أفعالهم غير المتوقعة، ووصف الأحداث والنهايات المأساوية المفجعة. 
وهي متَّسِقة تمامًا مع حالة الذهول والصدمة التي سيطرت على ذهن الشاب المسكين، ومعلمه الذي كاد أن يموت شنقًا وحرقًا في احتفال مجنون، بينما نجا كانديد من تلك التجربة الفظيعة بمعجزة. 
وعندما تبين لي أيضًا أن سبب عذابات كانديد الشاب الذي منحته الطبيعة الطّباع الأشدّ وداعة، لم يكن حسن الظن بالبشر، واعتقاده بأنهم جميعًا طيبون وأخيار...  
بل عندما اعتادوا أن يكونوا غير آبهين، بما فيهم كانديد ومعلمه، بانعدام دورهم في توجيه دفَّة الأحداث نحو الأفضل، والإفراط في التقبل السّلبي لكل ما يتناقض مع فكرتهم عن هذا العالم، وكأنها حياة محصورة بالزوايا والهوامش. ! 
إلى الحد الذي يمكن فيه القول: بأن ڨولتير لم يكن معنيًا كثيرًا بالمقارنة بين الضدين التشاؤم والتفاؤل، أو البت في أيّ من هذين المفهومين يجب أن تستند إليه تصوراتنا عن هذا العالم. قدر عنايته بانتقاد كيفية معيّنة لاستخدام التفاؤل الفلسفي في تبرير الشّر والمعاناة في هذا العالم.
والسؤال الآن، بعد ما شهدته العين من مآسٍ؛ ولاذ القلب بظلال الخيبة والقلق؛ لمن سيعطي ڨولتير  دور "المايسترو" كي يضبط كانديد برفقته رتم حياته..؟!  
معلم جديد يعلمه كيف يكون متشائمًا، ولا يبرر المعاناة مهما كانت الأسباب ؟!
 ربما... 
ثم يؤكد له بأنّ كلّ شيء في هذا العالم وهمٌ أو مصيبة، ولا حلّ لذلك، ولا مفرّ منه إلا بالعمل، وبدون إشغال الذّهن بأيّ أمر آخر، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل الحياة محتملة.. 
أقولها بقلبٍ مطمئن : لا بكل تأكيد. 
إذ لا يمكن أنّ تنتصر إرادة الحياة هكذا. 
كما أن هذا الموقف لا يتوافق مع القرار الذي اتخذه كانديد بمغادرة "بلد الإلدورادو الطّيب" زاهدًا بأحواله المعيشية الرّغيدة، وحسن تعامل سكانه وأخلاقهم الرّفيعة. وذلك للبحث عن حب حياته "كينوغيد" التي كانت أسيرة للمعاناة في مكانٍ آخر بعيدة عنه.. 
كما أنّه يتناقض مع تلك العبارة البليغة المغموسة بالتفاؤل الحذر: «هذا قول حسن، ولكن يجب علينا أن نزرع حديقتنا». 
والتي يختتم بها ڨولتير على لسان كانديد روايته الفلسفية وذلك في ردّه على أستاذه "بانغلوس" الذي كان يحثّه على الشعور بالامتنان لكلّ الأحداث المترابطة في أفضل العوالم الممكنة، بما فيها الفظائع والأهوال التي عاشها في أسفاره، والتي لولاها لما كان الآن مع من يحبهم يأكل أطيب الثّمار.
وكأنه يقول له: آمل ذلك يا أستاذيّ العزيز، ولكن يجب علينا أن نعمل الآن. 
أن نزرع حديقتنا...
. والحديقة، بالنسبة لڨولتير، هي استعارة، المقصود منها، القيام بأعمال مفيدة للإنسانية.
قد تبدو، تفاؤلية لايبنتز، لأول وهلة، ولغير المطلع، وأمام الشرور والفظائع التي عانت منها البشرية على مرّ الزمان، منفصلة عن الواقع، ومثيرة للنقد والسّخرية عند البعض.  لكن، وللإنصاف، لم يكن تفاؤل لايبنتز اعتباطيًا. 
إنما كان نابعًا من ثقته المطلقة بقوة العقل الإنساني، وبمبدأ العلّة الكافية حيث لا توجد نتيجة أو شيء بدون سبب. 
وقد كانت أفكاره َوخطواته في ذلك علّميه ومنطقية ومدروسة، ينسجم فيها العلم مع الإيمان إذ ما حاول أن يتفكّر في سرّ الأزل. 
 إنّ أفضل العوالم، كما يبيّن لايبنتز ذلك، 
لا يعني العالم الذي يتكون فقط من أفضل الأجزاء، أيّ أنه ليس مثاليًا، فالشر موجود فيه حتمًا، تمامًا كما أن "جزء الشيء الجميل ليس جميلًا دائمًا." 
وهو يميز ثلاثة أنواع للشر: الشّر الميتافيزيقي وهو نقص ملازم للموجودات المتناهية، وهذا أمر لا مفرّ منه...
والشّر الطبيعي وهو الألم.
أمّا النوع الثالث فهو الشّر الأخلاقي - الخطيئة- وهو الضريبة الضرورية التي لا بدّ من أدائها للحرية البشرية.
والذي مبعثه سوء إستخدام الإنسان للحرية الممنوحة له من الله.
لكن التفاؤل بقدرة العلم على الكشف عن النظام الدقيق لهذا الكون، وتحسين حالة الإنسان وتنظيم حياته، يجعل هذا العالم يتفوق في أفضليته على اليوتوبيا، حيث يكون الإنسان فيه حرًا في التصرف، وقادرًا على الاختيار بين الخير والشر. 
هذا بالإضافة إلى أنني أرى الكثير من الواقعية في فكره خصوصًا في نظرته التصالحية والتوافقية ليس فقط بين الحقائق والمفاهيم والآراء التي قدمتها الأنساق الفلسفية المختلفة، منذ بدايات الفلسفة وصولا إلى فلاسفة وعلماء عصره.   
بل أيضًا مع هشاشة معارفنا وضآلتها مقارنة بما لا نعرفه.. 
فما هذا الغرور الذي يجعلنا نعتقد بأن الطبيعة ملزمة بتصوراتنا عن الخير والشر..!
أو أن حركة الطبقات الصخرية وتصدّعها، 
التي تنتج عنها الزلازل يجب أن تتناسب مع أحوالنا النفسية والفكرية! 
بينما لو كان الأمر غير ذلك؛ لما تقدم العلم بالملاحظة والتجربة، أيّ حينما أصغى الإنسان بملء حواسه إلى صوت الطبيعة وفهم قوانينها. 
ومن هنا يمكن لي القول: بأن وجود وإدراك الأمور السلبية في عالمنا كالحروب، والأمراض، والكوارث الطبيعية والفجوات البغيضة بين البشر، وغيرها من الشّرور.. 
واتخاذ موقف أخلاقي وانساني، من خلال وجهة نظر متشائمة، لكنها خالية من كدرات العدمية واليأس والعبثية، تقوم بوصفها وتفسيرها وإيجاد الحلول المناسبة لها، والسعي قدر الإمكان لتجنبها قبل وقوعها، 
أو مواجهة الآثار السلبية المترتبة على حدوثها، بشكل لائق وانساني، لا يتعارض مع التفاؤل سواء كان مصدره العقل أو الإيمان، ولا ينفي عن العالم تعريفه بأنه أفضل العوالم الممكنة. 
في عملية تشبه النقد الذاتي للنفس، 
حيث يكون التشاؤم هنا تفاعلا حيًا يرقى إلى درجة عالية من الإنسانية.. 
يصبح هو والتفاؤل وحدة واحدة، لا تنفصل ولا تنفصم، وتسعى بالفكر والعمل نحو الأفضل. على سبيل التشبيه "مونادة" مدركة، واعية، ومتناغمة مع انسانيتنا..
 ******
 هذا ما كان، ويظلُّ لكلّ قارىء زمانه ومكانه، وانطباعاته الخاصة به، وتجربته الفريدة، وحرية المقارنة بين الآراء المتعددة، لإصدار الحكم واتخاذ القرار..✨

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...