الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

سيمفونية الشغف


بينما نتأمل عالمنا الذي يطفح الروتين والقهر من كافة امتدادات جدرانة الباردة؛ 
بحثاً عن زاوية نظر مناسبة، تمكننا من إدراك تراتبية الأشياء٠ 
هل هناك ما هو أكثر أهمية يا صديق الفكر من الإستمرار بعزف سيمفونية الشغف كتعويذة ضد طغيان الخوف وغشية اليقين وفوضى المعنى ؟ 
لنرجع كما ولدتنا الحقيقة، ورغم تآكل أجسادنا بحمى الرقص على جمر الوقت ، موئل انسانية برتبة وعي يتولى تدفق مجرى التجربة.
ثم التوغل أكثر على طريق الإنتظام في نسقها المنضبط ؛ ليتسنى للقلب الارتداد نحو وضوح رؤية عاطفية تقبل القسمة على محتوى معقول، تمكننا من فهم سبب عدم اتفاق الواقع مع ذاته في معظم تحالفاته وتضاداته المعقدة.
لست من هواة المبالغة، لكني مقتنعة بأن مع كل اشكالية نواجهها ثمة حل سحري قابل للأخذ والعطاء، ولا يحتاج منّا إلا القليل من التركيز حتى يستقر في نفوسنا ويصبح تلقائياً ... 
أي الوصول إلى حالة من التناغم الوجداني لا يخلو من طفرة ترجع في أصلها إلى شعور ديناميكي ومغامر ... 
هو ذاته الشغف الذي تفتحت فيه براعم ضمائرنا، وأكملت مدارات مِغْزَل الأناة خيوط نسيج حنكتها وحكمتها .
ذاك المتميز بقدرته على انتزاع مرارة التجربة، وإزالة آثار العابرين من على أسوار الذاكرة .. 
وحده من يتفقد الأنين في ظلمة الألم الشاحبة، ويتحسس بذكاء عاطفي مدهش مكمن الوجع غامراً إياه بفيض شلال عاطفة نوراني يتسلسل غير آبه بضبابية الزمان وانتكاسات الجسد؛ ليعادل شحناته القابعة في زاوية أرهقها تهافت الحيرة والشك والإنتظار، ويبث في جفون القلق الرخاوة والخمول. 
هل أثار انتباهك من قبل أن من يمتلكون صخباً وجدانياً في دواخلهم اسمه الشغف يبقون على نية انسانيتهم أقوياء ! 
ربما لأن مرونة أمنياتهم كأحلامهم البكر لا تنفكُّ تترقب هطول غيمة مدرجة في سجلات العطاء السماوية. 
ولم تزل خصالهم المحمودة تطلب البركة من مواكب المواسم حيث يكون للإستدارة معنى.
وتصبح النجاة من الوقوع فريسة لحسرة أو شماتة أو شفقة جاهل خبراً مؤكداً... 
إن أعظم محاسن الشغف تتمثل في قدرته الخارقة على إكمال كل نقص فينا، وفي كل شيء حولنا بما استحقته حواسنا من تنويعات الحياة. 
وكيف له أن لا يكون كذلك، وهو رديف الإرتباك المحير الذي يعصف بتلقائية الوعي عند التقائها بالجمال ! 
وللشغف أحوالٌ كثيرة منها : 
عدم الاكتراث بسرد المجاملات في حفلات الرياء والكذب.. 
والنأي بالكرامة عن جميع المظاهر المنبعثة من تلوث النشاط الإنساني في زحمة الاستعراضات الملأى بمهارات التسلق والإسقاط والإنكار ! 
هناك حيث تتساوى قيمة الأقنعة التعبيرية مع مشقة آلف عام من التحليل والإشتقاق؛ لإقناعنا بأن فضاءات التعبير باتت خالية من أثير شغفها، وعاجزة عن مسايرة قوى التفكيك من حولنا. 
وأن معظم قضايانا - نحن أهل الشغف - ليست إلا محض محمولات ذاتية متغيرة لموضوع جامد جمود النهايات.. 
نعم أيها الصادق في صداقته، ها أنت الآن تعيد طرح أسئلتنا الكبيرة حول من قام بسكب ماء الفكر في قوالب جنائزية ضيقة ومن حرض الظروف على التمادي بدلالها علينا. 
وقد كُتِبَ أن يكون لنا في كل شبرٍ وثانية وكلمة حكاية بنكهة تثير في قلوبنا شهية الحياة والمعرفة. 
وحضور تفسير خال من ثقل الإصرار، والتكرار، وتعب الترصد.
بالنسبة لي، وعلى سبيل التعافي والشفاء من داء انقطاع الإستمرارية بين محطات الاستدلال المختلفة، سأكتفي بمداواة أوجاع تساؤلاتنا المذكورة أعلاه بالشغف. 
 فنحن في الماضي لم نعش هذا الإكتفاء كما يجب، حين كنا نتجاوز بلا تفكير خطورة التحليق بأجنحة نمطية في عوالم ترى في التناقض أقوى نقطة مرجعية لها.
لكنه الشغف يا صديق الفكر ... 
جبل الإلهام والإبداع واللهفة.
الواضح بشكل كامل كأصل الفعل. 
 فإذا تراءى لقلبك في الأفق وحدة مصير ... 
فاعلم أنه يهتم لأمرنا... 
ويحتوينا كما نحب فيه تفهمه لشكوى يقيننا... 
حتى نجد في عينيه المنتصرتين كلّ شيءٍ مفقود في هذا العالم ...

الاثنين، 21 مايو 2018

مدن الحزن والحب


 مدن الحزن والحب



لا شيء أقسى على مدن الحزن من يأسها، من اختناقها بنحيب الصمت وضيق السواد! أن تصير كجثث محنطةٍ ينقصها تهذيب حزنٍ يمسك القلب كي لا يقع في براثن الجمود، ويعيد تشكيل الدروب بعيداً عن أفكار الموت واليأس والدمار.
فاليأس هو وحش المدن وسلاح الموت الفتاك ، شكل من أشكال الإنتظار القبيح للنهاية.
والأكثر قبحا على الإطلاق هو حين تتجسد المأساة على شكل انسان جعل منه اليأس آلة جبانة لا تملك جرأة الإعتراف بسرّ ذلك الحزن الذي يحمل بين رؤوس أصابعه صكّ انعتاقه من قيود عبودية صفر المستحيل.
مدن اليأس وهم حزن تلفحه رياح الإهمال من كل تجاه.
صورة واقع كان اليأس له سمة سائدة ومرجعاً حاكماً لكنه لم يحبنا كما أدمناه حتى إذا ما انتهينا إلى تلك الحقيقة ألقيناه في جحيم خلافاتنا معتقدين أننا بذلك على الطريق الأحق والأجدر بمحاسبته و استعجال نهايته!
أما حال مدن اليأس فهو كحال بذور على الصخر دون ارتقاء ... اقتتال وتخبط في غياب مرعب للتنظيم والاتساق!
فالإختلاف وقاحة تستوجب العقوبة والخلاف منبع المعايير!
بينما ينفرد بأدوار البطولة المطلقة جهل جاحد بنعمة التساؤل تقابله في الخانة السلبية غباء سخرية تفتقر إلى أدنى درجات الملاحظة والذكاء .
لكن حتى لو استقرت كلماتنا على دلالات الحزن فيها ،واستكان الفكر دون اقتناع لنتائجه اللامنطقيه، وتلاشت أغنيات العمر النازفة في شرايين النسيان.
فهناك في المساحة الفاصلة بين مدن الحزن والحب برزخ تتأرجح كفتاه بين غيمتين، الأولى اسمها "العقل" والثانية تدعى "الحب" وهما دائما ما تتبادلان تحية الفكر المقدسة دونما اكتراث بخرافاتنا وأزماتنا الحوارية وضعف إلهامنا ونوع شحناتنا العاطفية !
فهما ثابتتين على ولائهما لحقيقة أن للحب أوطانه ومدنه المتحدّية كأنفاس تشهق وتزفر في محيط من النبواءات كأنها تبتكر اسماً فريداً لخلودنا أو تنشئ طريقا استراتيجياً يصعد بنا إلى ذروة الوجود!
ففي مدن الحب ليس عليك سوى أن تصنع لقلبك مقداراً لطيفاً شفافاً تطفو عليه ريشة اسطورية...وكلما نجحت في ذلك تأكدت بأن لا أحد يمكنه أن يسلبك حقك بأن تتعرف بحدسك على أسلوب التعبير الخام الذي تفيض به روح الكون من حولك...عندئذ ستعرف كيف تستلّ من بين ركامات السنين قيمة أيامك تماماً كما يُميّز الجيولوجيون معادن الصخور وكما يدرك خبير الأثار حين يسير على خطى حضارة عظيمة إلى أين تقوده موسيقى الريح...
مدن الحب عملاقة في شموخها وكبريائها تعرف كيف تنتقي أبطالها لتتكامل وتتوازن، ومتى تمد جسور القبول والتلاقي فوق وديان الرفض والتحدي .. مدن تكتب انبعاثها بأعمدة الماضي فتستحيل ميناءَ فرحٍ مستقبلي كامن في أعماق عقل يتوهجُ وعياً وأملاً وحياة...
مدن الحب مجبولة بدماء شهدائها، بحضور الأشياء اليومية والتفاصيل المستعادة، بتنهدات نسائها الجميلات بعد اثبات جدارتهن في تحضير فطور ساخن لنهار مثقل بالهموم، وبالغفوة المسروقة على راحة يد متعبة،وبحماسة صيف يركض نحو خيالات خريفية،وشتاء يطوي رحيله في أعماق الأرض،وبألوان أمواج ربيعية تتراخى بجاذبية على الجراح المفتوحة ...
في مدن الحب يغدو الحب شفافاً منزوع الدوافع ...وكل شيء مبدعُ وخلاق
ويكون الإقتران بذات حقيقية غارقة في عزلتها فالحب لأجلها فقط وليس لأمر أو شيءٍ عارض عليها . بينما يظهر ابداع الحب بكونه الفنُ الوحيد الذي يتميز بالإستقلالية إذ أنه لا ينتظر إقرار أو موافقة أحد مما يجعله غير قابل للتبدل والتغير والمساومة ولن يعوزه شيء ليستمر سوى تلاحم قلبين وتمازج روحين في وجود واحد‍ !
فكيف لي إذاً أن لا أحيا بعاطفةٍ تشعُّ حباً بكل لغة وأن لا أكتب بمدادها مثلاً الى الأوطان الساكنه فينا، تلك التي لا تفنى ولا تستبدل، لأنها من خصائص الروح!
وأن لا أقوم بتَطْيِيبُ صفاتها بشذى من اكتشف بحدسه النسبة الذهبية بين عقله وقلبه قبل ان تومض له على صفحة البصر أثناء انعكاسها على محَيَّاه في المرآه تلك الموجة الأنيقة ذات الرسم الأسطوري الجميل .
أو أن تتوقف بوصلتي الكونية عن الإبحار في الكتاب الذي أصبح بجرة قلم صديق الفكر وأيقونة خالدة في الوجدان، ذلك الكتاب الذي كلما أمعنت في قراءته أكثر انفتحت أبواب الحقيقة على الخيال كلوحة ذات أبعاد تجريدية.
حقاً كيف يمكنني أن أتوقف عن الحياة، والكتابة، والسعي بنور البصر والبصيرة في سبيل تفسير أهمية ثبات "نقطة الإرتكاز" عندما تطول المسافات وتتشعب وتتعقد الطرق. وقد علمت أن للكلمات في صدقها إرادةٌ لا تنثني، وفي اتحادها قوة حكمة قادرة على تلوين فراغ هذا العالم المضجر بألوان شمسية نتقله من انعكاسات الحياد الرمادية إلى انبعاث شموخ أزرق ومن أنانية النار إلى تضحية الغار.
فليكن لك سلامك وطمأنينتك يا حب ...يا أيها الخالد في ذاكرة الروح كالمعجزة. يا من كان غيابه إِرتِحَال غربة وإِغتِراب وحضوره أعظم انتصار ... ولا تقلق من خريف مفاجئ أو نتيجة قد تعكر مزاج القلب.
حتى وإن حرمتنا من "ثابت النسبة" باعتبارها ترفاً فكرياً تلك الضحالة التي تعج بها ثرثرة المتفذلكين وفضول الطامعين والمتربصين وكل من ظنّ أن سلامنا تعثر سذاجة وعزلة استسلام
فأنا منذ أطلّ وجهك الدافئ كشمس آيار من نافذة حريتي وأعلنت إيماني بتلك العينين...ووصفت بجمر اللغة معالم مدن الربيع حيث يكون لأبجديتي النصيب الأعظم من احتضان اللون والضوء لا أرى في باطن القلب إلا جذورك تُورِق في مساحاته حدائق ثقة بينما تُزهِر درجات صوت الحبيب السبعة نغماتها البلورية في ذاتي..
وقد عرفتُ، ودون استحضار حيلتنا القديمة بتقسيم الأرض والسماء إلى مربعات أنه في بواطن خرائط مدن الحب وثنايا أزمنتها لا شأن للأيام والصدف باجتماع القلوب وتوافقها وإلا لكان اليأس ثالثنا... والضياع قدرنا المحتوم ...لكنه الوطن الذي أبدع ديمومة التجانس والتناغم بيننا في جاذبية انصهار تتدفق في الشعور لتفعيل تمام المعنى كي يواكب جمالية الصورة الكاملة للحب عندما تتجلى في أوطان الحب أجمل صفات المثل الأعلى كمرآة نسترد فيها وجه المحبوب ونلامس من خلالها الأصل النقي لملامح أمّنا وأبينا وهي تحتضن أسرارنا وأرواحنا...

وقد كان أن تستقر قلوب المحبين وأفكارهم على هيئة مدنٍ وأوطان وفراديس سماوية حتى يسمو كل شيء على طبيعته في فضاء قيمته المطلقة وليظل هذا التكوين الشفاف للوطن هو الرمز الأعلى والأجمل والأكمل للحب!

الجمعة، 21 يوليو 2017

إسم المعنى


لا... ليس سراً قد أهمس به في يوم ثقيل لغريب عابر أو صديقة مقربة ..
ولا هو مضمون صورة أو لوحة من زيت أو  ماء أعطي من خلالها لمسمار غبي شرف الإلتصاق بها ..
كما أنه بتفرد تكوينه لا يشبه ذلك المخبأ السحري الذي عادة ما يأخذ شكل زاوية حادة .
ولا هو كما يدعي ملح مدن العدم نبض عبثي لعاطفة عارضة وأن أي عاطفة مهما علا شانها وتسامت هي إلى زوال وزوالها مسألة وقت صفة بقائه بطء الذوبان وبلادة التفاعل.
بل هو الإجابة الكبرى و ملهم الحرف وموجد المعنى لكل لون وعطر وكيف لا يكون كذلك وهو سر اعجاب النفس برموزها ...وتاج كل ذكرى تصدح بموسيقى الحنين واسم مثال الجمال الذي علمني كيف أتقن صمت البوح...
هو احتواء يحملني إلى  نسيان كل ما قاله وسيقوله الأصدقاء وأعداء الأصدقاء هرباً من فتور غامض وتجاهل كل من بات يحصي خطواتي حتى يبدع أكثر في انتقادي وتقليدي!!!
هو فن العيش بما يستحق أن تنهار أمامه أعتى وأشرس المخاوف و الشكوك... 
ضياء وجه لؤلؤي مت فيه من قبل حباً وشوقاً . 
وسماء تفيض يقيناً يليق به التحليق والإنعتاق والتحرر بخفة اللحظة من كل ما لا ينتمي إليه...
فهو أعز وأغلى وأصدق وأقدس ثقة ...
هو موطن الفكر ومرآة الروح ...
هو صخب الوقت في حضرة الانتظار ...
هو اشتياق الموج لثبات صخرة ومعانقة قمر السهل لنجمة نجت للتو من سهم صياد جبلي..
هو القيثارة التي نقشت على صدرها أيقونة الوجود بلا ميلاد أو موت والنشيد الحلو الذي أعطى لقارات الأرض رحيق نضجها ..
هو الإصغاء الذي يسند لغتي وحدقة العين التي يبهجني شغف اتساعها وهي تحاور حرفي الممزوج بإيماءات الرضا والقبول..
هو إجادة قراءة الأسماء والعناوين في خرائط الجغرافيا دون استخدام ضمائر الملكية ...
واصرار الذاكرة على سرد التاريخ بطريقة حكايات الجدات ..
هو امتداد كل شيء له معنى... له ماضٍ... له اسم... له ايقاع .
هو المستقبل الآتي على بساط محبة لم ولن تعرف لوجودها سببا يحاصرها أو حياداً يقتل جاذبيتها
هو امتثال الأبعاد لموهبة عين تحب وتحرس ...
هو تشابك القلوب قبل الأيدي في رقصة ربيع ثنائية أو في احتفالية جماعية ...
هو ما تبقى في صناديق القلب من تجدد وأمل وحب..
هو انتصار تحية الصباح والمساء على أوجاع الغربة و الوحدة و الغياب ...
صباح الخير يا أغلى وطن...
مساء الخير يا حبيبي .

الثلاثاء، 21 مارس 2017

في مدرسة أمي...


صباح الخير أمي... 
صباح الحب الخالد يا سيدة الحنين.
يا نشيد كل يوم...  
وهذا اليوم الذي يحتفل فيه بكِ العالم ويزهر بعاطفتكِ التي أقسمت على نفسها  بأن تكون الرافد الحقيقي لنهر حب كوني .. 
ماذا أقول في حضرة عينيكِ هذا الصباح أمي؟ 
ماذا يقول من نسي رغم الأيام والتجارب أن يكبر؟
 فأنا على حالي ما زلت طفلتك المدلّلة العنيدة المشاكسة المحتاجة إلى سلام يديكِ الحانيتين لتمسح عن جبيني أشباح السنابل الفارغة وتعيذني بدفئها من تجاعيد الحزن الباردة. 
وما زلت أنتظر كأطفال الملاجئ ارتماء نجمتي الحارسة في ناحية هادئة، صافية  من سماوات قلبكِ..
ماذا أقول لأمي في يومها المبارك؟
بأي كلمة يبدأ بها الفاقدون المفقودون مثلنا صباحات أعيادهم؟
 هل أقول أن الغياب وهم الخائفين، كما هو الموت حُجّة كسالى الروح لتبرير غيابهم. 
هل أقول بأن أجمل الممكنات، وأكثرها صدقًا وسطوعًا على الإطلاق، أن تظلّ ملامحها الغالية محفوظة في مرآة القلب رغم الغياب..
فكيف إذًا لو ارتسم على هاته الملامح طيف ابتسامة تبدّد الحزن وتنفيه.
وفي ابتسامة الأم يتجلَّى جوهر الحضور، فلا تبصر فيها العين أيّا من عوارضه، ولا تنشغل النّفس ثانية بتبدُّلاتِ أحواله..
فمن تعلَّم الحب في مدرسة الأمومة، وارتوى من جداول أبجديات الحنان فيها، يعرف تمام المعرفة بأنّ ابتسامة الأم لا تغيب.
تبتسم أمّي في كلّ مرَّة أخطأ فيها الهمُّ طّريق قلب أحد إخوتي .
وتبتسم أيضًا كلما أحببت في ذاتي صفة كانت تتحلى بها، أو اكتشفت بعيون الناس ملْمَحًا لديَّ يشبهها.
وتطلّ من الغياب ابتسامتها إذا ما استمعت إلى أغنيتها المفضّلة، واشتعل بدل الدّمع في عينيّ، سراج صوتها الحنون في الذاكرة.
وتبتسم أكثر كلّما طال النّقاش وتباينت بيني وبين (رفيق روحي) نقاط الاختلاف حول المكان الأجدر بصورتها...   
حين يختار هو بعفوية متعمدة، المكان الأجمل والأقرب إلى قلبه، بحيث أستسلم أنا للصمت راضية، ومكتفية مع كل هذا الحب لها بدوام ابتسامة أمّي..
من قال أنّ ابتسامة الأمّ قد تغيب؟!
فكلّما تقدم "ضمير الدّنيا" خطوة في تصالحه وتعامله مع النّساء بطريقة أكثر لطفًا، وأعمق فهمًا، وأرقى حضارية.
رأيت أمي تبتسم....
وفي كلّ مرَّة انتصرت فيها الحكمة على ضجيج المعارك وغبائها وعاد الرّجال إلى أطفالهم سالمين.
أو كتب القدر السّلامة لأمٍ أنساها وجه وليدها ألم وخوف الولادة.
كنت أرى أمّي تبتسم.
وكلّما تتحققت نبوءة صبرٍ قالت فيها أمٌّ لأحبِّ النّاس على قلبها: " غيمة صيفٍ وستمرّ"
شعرت بأمي تبتسم..
في عيدك  قالوا وقلت عنكِ الكثير أمي ..
الكثير الكثير ولم نقل شيئاً..

الخميس، 16 مارس 2017

رســـالة حــــــب

 

 
 
أكتب لك.. 
  وأعلم أني مهما حاولت لن أجد مفردة قادرة على احتواء ما يجول في البال من مشاعر في كل مرة أحاول فيها استحضار عينيك بوصلة قلم ومداد فكر.
وحقيقة الحال أني كلما أبحرت أكثر في تفاصيل هذا النوع الفريد من التخاطر بيننا زاد تعلق العاطفة بدلالات صمتها.
لكن، لا شيء أجمل من أن تحولني تلك المشاعر إلى توأم نقطة ضائعة ما بين حلاوة البدايات وأعماق النهايات.
أو كلمة حب من نور ونار لا تفارق يديك النقيتين .. 
كلمة تعرف حين أسكبها في عروق العاطفة كيف تشعل أوراقي المجبولة بفهارس الحب في قلبك بوهج حُمْرَة صافية كأنها لون وجه صيف أطلّ على الوجود من شقوق آيار.. 
فتعال أكتبك بأبجدية شغفت بك جواباً. 
وانصت معي إلى متتالية لغوية خبأت فيها  كل ما في عينيّ من شوق لا نهائي، وحب صقلته استقامة جبينك العذب، لأسافر فيك كطائر الأحلام من غربة الكلام وغرابته إلى جنة المعنى..  
إلى وجه وطن يحمل عنا عبء غموض المسافات كلما اشتاقت عناصر خطاباتنا إلى أزلية أبعادها، ويأخذنا إلى حيث تلتحم الثنائيات، بتناسب يوحد القلوب ويجمعها، رغم تفردها واختلاف أحوال أصحابها؛ 
لينثرها عطراً على أكتاف العناق. 
رسائل الحبّ: هي كلماتنا التي لَبَّت نداء الوجد، فانتفى بصدق حضورها ألم الغياب.. 
هي أقدارنا التي فهمت صمت شفاهنا فأحببنا استسلامنا لها... 
هي حنين الحكايات إلى جزئية مرئية في ثناياها.
هي مهارة تَذَوُّق طبائع الواقع الممزوجة بالخيال.
هي النَّكهة المعتَّقة لأشواقنا. 
هي ما تقوله تقاسيم الرّوح للإحتفاء بقداسة الذكرى. 
فهل نملك للحبّ في رسائلنا ما هو أعظم من اضطراب الزمان بتداخل عباراتنا. 
فلا "قبل" تضيع في بواطنه براعم كلماتنا. 
ولا "بعد" يقطفها .. 
بل إحساس أصيل يحرسها ويحميها من مصير طغيان بحار الكآبة والرتابة.
كما أن في اقتران اللغة بالعشق فنّ حياة وعلامة خلود، يهب للّغة ولادة ثانية، فتصير بيضاء نقية، كأثواب طفولتنا العاجية. 
وكلّ ميلادٍ لك فيه نصيب هو مناسبة للفرح، وإطلالة عيدٍ عذبٍ وشهيّ للحبِّ والحريَّة.
  أكتب لك وأعرف يا قرار العقل وحرية القلب، أن للعاطفة بوحًا  لا يفهمه إلا من أتقن التخاطب والتمازج بطريقة الأعاصير.
وكنت قد رأيت في افتتان الناس بنقوشهم القديمة، أن الكتابة هي معادلة الضرورة التي دائما ما نلجأ إليها من فرط شغفنا للتعبير عن كل حالة شعورية نعيشها ولا نستطيع فهمها أو تفسيرها.. 
لكنني أكتب الآن لأقول لك كيف تعلمت حفظ مواعيد حضورك في شراييني برغم انعكاس الشوق على نافذة الإنتظار ، وحنيني إلى مقاصد ذلك الجهل المحبب الذي كانت تفرضه علينا أناقة السؤال. 
ولأخبرك أن بعض الزمان من حولي غاب وجزء منه انتهى وتلاشى.  
لكن عطرك بقي ملتصقاً بروحي، تحمله بسلام أحصنة الشوق إلى ذاكرتي فارساً نبيلاً لا تزعزعه عوارض الغياب، ولا تقلبات السنين .. 
أكتب لك وعنك و أتساءل: 
كيف لي أن أجمع من زوايا الكون شعاع حروفي وفي فضاء عينيك البرّاقتين  نجمتان تتنافسان على الفوز بما يجود به وجهك القمري من ضوء وجاذبية... 
وعيناك هجرتي الشرعية إلى مواطن الروح.
ورود مدائن بحرية، وشرفات حرية تحاكي الطيف في اندماج ألوانه ... 
أسير فيها بلهفة أمل تجاوز حدود الممكن وقواعد اللياقة ... 
يلهمني وصف ابتسامة هي غاية ومقصد كل ما أطلب وأتمنى.
أتأملها في مِلء أوقاتها وفصولها، 
هي كعينيك لا تعرف لوماً ولا غياباً، ثابتة مستقرة كذهب كلماتنا،
متجددة كثمار أتقنت تآلفها.
شفافة كصوتك البحري حين تداعبه أشرعة العودة فيسطع من وهج شفتين يتجمع فيهما ضوء ناعم كبلّورات السكر سر أغنيات مساءات حضورك الفضية .. 
يا دهشتي التي منحتني إكْسير التجدد. 
 لك وحدك تقرع طبول الحب ويحلو احتلال القلب.. 
برشاقة نظرة فاتنة تحمل نداءً سحرياً للفرح. بعذوبة حديث نذرناهُ بستان ورد
بنسائم أفكار تشكلت فردوساً مكتمل التكوين والصورة. 
بصمت ألذ وأشهى من فاكهة صيفية.. 
بصدق حضور تنساب منه المواقف سلاماً مضيئاً. 
بعزف جريء على أوتار المعاني كأنه نقاط ضوء تتسابق في مدارات كونية. 
لم أقل شيئا بعد يا أيها المسافر بين محطات وجودي بهوية عشق أبدي.. 
فلا زلت أتخبط في حيرتي،  وأصارع لغتي علها تأتي بما يليق. 
 ولا حيلة لدي سوى الاستمرار في رسم خرائط سرية لعناوينك في الذاكرة؛ 
 حتى أتمادى في التيه على طول مواسم غابات عينيك الخضراوتينْ، ثم أتحول بعدها بكلمة منك إلى أثير يحيا بأنفاسك،  ليتشكل مطراً جديداً يهطل على قارات حبك الماسية. 
 وإن كان لا بدّ من هطول، فليكن هطول النور من أبجدية عينيك الساحرتين..
تلك الأبجدية التي تختصر حروفها أسرار القيثارات والكمنجات في طقوسها وأناشيدها .. 
أحبك، وسأظل أكتبك متجاوزة استحالة ايجاد منطق لغوي يعصم المفردات من عجزها وقصورها وحاجتها إلى كسر كل الأوزان الشعرية..
 ويقيني  أنك أنت من يستطيع قراءة حبي بلغته الأصلية ولا شيء لديّ سوى تأويلات حبك أكمل بها وحي الإستعارات سلام لعينيك حين تقرآن حروفي وسلام لقلبك حين يعانق نبضها ... 
أمّا أنت أيها المعنى كن كما عهدناك دائماً كريماً وفياً ونمّ قرير العين على صدر رسائلنا !!

السبت، 5 نوفمبر 2016

قراءات في الذات الإنسانية: الضمير


 
هو جبل شاهق وسط جزيرة معزولة في أعماق النفس، راسخٌ في تربتها الملأى بالمعاني كالحقيقة، 
تحيطه من جميع الجهات أفكار ورؤى وتصورات يعلن بها وجوده الفعلي في وعينا بصيغة أحكام وقواعد ومبادئ تستلهم مضمونها من علو يرانا ولا نراه، يدركنا ولا ندركه.
 يعلو صوته حيناً وينخفض حيناً، 
لكن ما يميزه أنه يعرف جيداً كيف يستجيب لنداء رغباتنا بل كثيراً ما يتجاهلها حتى يتسنى له فرض أحكامه ورؤاه على ارادتنا دون أن يستثني تلك التي كنا نعتقد بأننا قادرون على اخفائها. 
وكأن كل ما يقوله لنا لا يعنى إلا شيئاً واحداً، شيئاً محفوراً في وجدان كل واحد منا،
 وهو بلا شك في غاية الأهمية والإنسانية، 
يناظر وقفة الإنسان الأولى على أديم هذه الأرض وادراكه لأول مرة امتداد بصيرته إلى ما وراء الأفق...
 إلى نقطة تحرره من عبثية الفكرة والموقف .. شيءٌ يجعلنا على قيد الإنتماء لنوع حي يعقل، يعي، ويشعر . 
ويدفعنا إلى تلك النبضات الواعية القادمة من أعماقنا، إلى الإستماع لها، والإحتكام إليها، والإحتماء بالود الذي تخاطبنا به ليل نهار... 
عن أي أمرٍ أو شيءٍ أتحدث ؟؟
 عن الضمير نعم.
 أتحدث عن إحساس "الأنا" بصوابها وخطئها، عن الصوت الداخلي الغامض الذي لا يهدأ، عن صوت النور الداخلي. 
فما هو الضمير ؟
 بدايةً يمكن تعريف الضمير بأنه استعداد نفسي داخلي لإدراك الصواب والخطأ، وسمة أصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية. وبالإعتماد على المعنى الذي تتضمنه كلمة الضمير اليونانية συνείδησης أو syneídisi فالضمير موضوعاً هو الوعي أو الإدراك. 
ذاتياً: هو ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺬات ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺬات وإصدار أحكام تقويمية على أفعالها ..
 أما الضمير وفق المنظور الديني هو اثبات الكرامة الإنسانية ، ونور وصايا الله في نفس المؤمن، والذي يقودها إلى التقوى في قول وفعل الحق والخير والتزام الفضيلة مما يجعل نسيج النفس مرناً ومتماسكاً وخالداً في نعيم لا ينتهي.. 
هل الضمير ولادي أم مكتسب؟ 
لو افترضنا أن الضمير أمرٌ فطري، فهذا يعني أن الضمير قوة أخلاقية ولادية تولد مع الإنسان بحيث تكون النفس مزودة بقدرة التمييز بين الصواب والخطأ وامكانية ضبط الإرادة لتجنب الخطأ. 
يتفق ذلك إلى حد ما مع نتائج الأبحاث والدراسات التى قام بها الباحثون في هذا المجال على أخلاق الأطفال الرضع بهدف اثبات مإ إذا كانوا يمتلكون معرفة تمكنهم من التمييز بين الحق والباطل، وذلك من خلال مراقبة نظراتهم وتصرفاتهم وكيفية تفاعلهم مع الخيارات الصحيحة والخاطئة التي تطرحها الإختبارات.
 لكن، وعلى الرغم من النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسات حيث أظهرت بالفعل وجود الحس الأخلاقي الشامل لدى الأطفال إلا أنها حتى اللحظة لم تحسم الجدل حول إن كانت تصرفات الأطفال نابعة من التعاطف أو من معرفة الخير والشر. 
ذلك أن دور الضمير حسب مفهوم علم السلوك وعلم النفس التطوري هو تعزيز الإيثار المتبادل بين الأنا والآخر.
 أي عمل الخير مقابل المعاملة بالمثل وصولاً إلى أعلى درجات الرقي والوعي الضميري وهي التضحية والإيثار الحقيقي المحايد أي عمل الخير دون شرط أو انتظار مقابل.
 ولو قلنا أن الضمير عاطفة متعقلة ،
 فهذا يعني أن المعتقد الداخلي أي الضمير مكتسب، أي أنه يتشكل ويتطور خلال مراحل حياة الإنسان، ويتم صقله بالتربية وبواسطة التجارب التي يخوضها الفرد مع محيطه. 
هذا بالإضافة إلى أن رقابة المجتمع بكل ما تفرضه من مفاهيم وعادات وقيم تؤثر بشكل كبير في الطريقة التي يصوغ بها الضمير أحكامه . 
والرأي الأخير هو الرأي الذي تميل إليه الفلسفة وعلم النفس المعاصرين، فالضمير صفة مكتسبة على اعتبار أن الضمير الفردي لا يمكن أن يصوغ أحكامه إلا بناءً على وعي الإنسان بمسؤولياته ودوره بالمجتمع وتربيته وخبراته وظروف حياته . 
لكن، وسؤال لمع في ذهني الآن ألا وهو كيف يخالف الضمير الفردي الضمير الجمعي في كثير من الأحيان بل وتكون أحكام الضمير الفردي أكثر صوابا ومنطقية وابداعاً ؟ 
والأمر الذي لا يمكن تجاهله في هذا الموقف هو كيف يمكن للضمير أن يستنبط حكما بواسطة قيم جمالية نسبية، ومن خلال شعور الفرد بلذة السلام الداخلي والراحة والسكينة مع نفسه أثناء اتخاذه قرارا معينا أو قيامه بتصرف ما ، وبغض النظر عن رأي مجتمعه وحتى أقرب المقربين له.
 لتثبت الأيام فيما بعد صواب وصحة حكم الضمير الفردي وتفوقه. 
غير أن المفهوم السائد الذي يرى الضمير أداة تأنيب لا تمرد تجعل الضمير الجمعي في الواقع هو من ينتصر في النهاية ... 
ويبقى الفرد في مساحة الخيال الخاصة به، ينشأ عليها عالمه المثالي ونماذجه الروحيه وادراكاته الخاصة للقيم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. 
 هل يمكننا القول إذاً بأن الضمير مصدر من مصادر المعرفة ؟ 
نعم، في حال كان الضمير حياً نابضاً بالحركة كشمس تحتضن حدثاً ديناميكياً و تصالحياً بين العقول والقلوب، وقمراً مكتملاً يسهر على حفظ الكرامات والحقوق الإنسانية، 
فالضمير اليقظ هو الضمير الذي لا تتوقف محاولاته في مجالات المعرفة الذاتية والإصلاح الشخصي من خلال تحفيزه للفرد على القيام بعمل الخير، وتوجيه النقد الذي قد يكون لاذعاً وقاسياً في حال ناقض الإنسان ما يحمله من مبادئ او ارتكب خطأ ما .. 
وهنا قلق يخطر في البال متنكراً بهيئة سؤال ومضمونه هل يموت الضمير ؟ 
نعلم بأن النفس البشرية مزيج من الخير والشر وما دام الخير والكمال المطلقين أمر غير متاح بشرياً ونفس القاعدة تنطبق على الشر المطلق ، فذلك يعني أن بذرة الخير في النفس الإنسانية لا تموت والصحيح أن إهمالها وتجاهلها هو ما يبقيها حبيسة الأعماق المظلمة فيختنق صوتها ويضيع وسط ضوضاء أعباء الحياة ومشاغل النفس وهمومها وما أكثرها في زمن مادي متسارع... 
أما الضمير كأداة معرفة وتوجيه وتمييز بين الحق والباطل نعم يموت بموت انسانية صاحبه . 
والمعنى الذي أقصده هنا هو حين يعتبر الإنسان نفسه أو غيره كائناً ملائكياً منزهاً عن الخطأ، أو شيطاناً لا يستحق إلا اللعنة.. 
يموت الضمير بغرور الإنسان وأنانيته وجهله وتعصبه لقناعات تحرمه متعة تجديد وتحريك الراكد فيه وتسلبه حرية وزن الأمور وتقييمها أو بسلوك أعمى متسرع يقوده إلى هاوية الفقد والخسارة .. 
نعم الضمير كصاحبه يذبل ويموت قهراً إذا تم التعامل معه بسطحية ولامبالاة وتذوب روحه في ماء النسيان كمداً جَرَّاء الإقصاء والتهميش.. 
والسؤال الذي يفرض نفسه لفهم أكثر وضوحاً ودقّة وهو: 
هل هناك ضمير عدو وضمير صديق ؟ 
بمعنى آخر هل يمكن أن ينقلب الضمير على صاحبه؟ 
بعيداً عن كل ما هو ذاتي وفي محاولة للإجابة على السؤال المطروح وايجاد مفهوم أكثر توازناً ومعقولية للضمير كان لا بد من المرور مع مراعاة الإختصار الشديد على أراء من أشبعوا هذا المصطلح دراسة وتحليلا ونقداً وعلى رأسهم فريدريك نيتشه ( 1844 - 1900)م فيلسوف المطرقة والإنسان المتفوق. 
يعتقد نيتشة ان الضمير قد ينحرف عن مساره حين يبالغ في توجيه اللوم والإتهام والنقد لداخل الذات بدلا من محاسبة الأطراف الخارجية التي ارتكبت الخطا. والسبب الذي أدّى إلى ذلك برأيه يكمن في وجود القيود الإجتماعية والدينية التي أجبرت الفرد على تجنب الأفعال اﻟﻌﺪواﻧﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ التي هي من صميم تكوين الجنس البشري وحرمان الإنسان من متعة اﻟﺘﻠﺬذ ﺑﺎﻻﻧﺘﻘﺎم مما دفعه إلى أن يقوم بتصريف شحنات العنف إلى الداخل. 
كما أن تأنيب الضمير بالنسبة لنيتشه هو شيء غير جدير بالتقدير. 
إذ لا يجب أن يتنكر الإنسان لعمل بعد القيام به، بل عليه أن يقبل بالنهايات السيئة لعمله وعدم محاولة البحث عن أي قيمة في الرجوع عنه. 
ذلك أن الإنسان حينها يفقد القدرة على رؤية تلك النتائج بشكل صحيح، بل إن عملاً أخطأ الهدف في رأيه يستحق التقدير أكثر .
 هنا الضمير حسب وصف نيتشه بات مشكلة حقيقية وليس حلاً، وبتعبير أكثر صراحة أصبح الضمير أداة تعذيب ومصدر قلق للذات، وهو يرى أيضاً أن خصائص الضمير وهي اللوم المستمر، والنقد، وعدم الرضى، كفيله بأن تجعل أصحاب الضمائر الحية يعانون بشكل دائم من حالة شعورية مضطربة وغير مستقرة .
 لكن، في المقابل فإن رضى الضمير عن أفعال صاحبه يعكس وجود مشكلة أخلاقية. والآن هل نجح نيتشة فعلا في وضع الضمير في مأزق حقيقي؟؟ 
برأيي أن كل هذا الاضطراب المنسوب للضمير ليس إلا نتيجة ﻹدراك أﺧﻼﻗﻲ ﺳﻄﺤﻲ وﻏير ﻣﻜﺘﻤﻞ لمفهوم الضمير وطبيعة الشخصية الإنسانية ومكوناتها. 
فالمشكلة ليست في الألم الذي يسببه الضمير لصاحبه عندما يرتكب خطأ ما ، بل في عدم إدراك وفهم الأسباب الكامنة وراء ذلك الألم. وبلا شك أن التأديب الذي يقوم به الضمير يدفع صاحبه إلى تصحيح سلوكه ومواجهة أخطائه ومعالجتها بأقل الخسائر. 
وهو ما يمكن اعتباره فرصه ذهبية ليصبح الإنسان أفضل.
 كما أن تضخيم الأخطاء، واعطائها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي يمكن اعتباره مسببا رئيسياً في كل ما يعانيه أصحاب الضمائر من ضيق وآلام. 
والمقصود أنه عندما يطغى صوت الخطأ على صوت الإصلاح أو الضمير، تبقى النفس على حالها في حالة ضياع وحيرة، فلا هي قادرة على معالجة الخطأ من ناحية، ومن ناحية ثانية باتت عاجزة عن التفاهم مع صوتها الداخلي الذي لا يتوقف عن تأنيبها . 
أعلم أن فلسفة نيتشه كانت وليدة تجاربه وملاحظاته وتأملاته في الطبيعة حيث استمد منها حقائقه وتفسيراته للظواهر الإنسانية التي كان يبحث فيها بآليات فيزولوجية، انتقائية، وناقدة. 
لكن لا بدّ لي من القول بأن أراءه هنا لم تكن إلا ردود أفعال على كل سلطة فرضها زمانه عليه، سواء كانت دينية أم مجتمعية، وبكل تأكيد لم يكن عبثاً ذلك المزج بين تسلط أصواتها وصوت الضمير الداخلي حين نراه يصرح مثلاً بأنه في عاداته السلوكيه وأفكاره دائم التطلع إلى كل ممنوع وكيف لا يكون كذلك وهو كما يقول تلميذ لــ"ديونيسوس" إله الخمر في الميثيولوجيا الإغريقية، وملهم طقوس الجنون والابتهاج والنشوة..
وأنه يمتلك يقيناً غريزياً يمكنه من معرفة ما هو صحيح وضروري بمعنى أنه إنسان معافى بجوهره الغريزي . 
نعم، لا شكّ في أن صوت مطرقة أفكار نيتشة الصريحة جعلني أتفهم جيداً موقفه الرافض لجمود الفكر وإصرار الناس على جعل بعض الأفكار والمعتقدات أصناماً يجب تقديسها. 
بالتالي فأنا لا أملك أمام جرأته وتحليقه في فضاءات جدلية ،صادمة ومتناقضة إلا الإعتراف بتميزه سواء اتفقت معه أم لا. 
لكن هناك برودة في فلسفته حول الضمير تعادل برودة الجليد حيث تخلو بيئتها من وجود الكثير من المعاني التي تعطي لحياة قائمة أساساً على التعاطف والتضحية والتنازلات قيمة ، وللنفس الإنسانية التي تميل إلى الإجتماع والتعاون والصداقة معنى وهدف. 
نيتشة، في كتابه "Ecce Homo: هذا هو الإنسان" وإن كان يعاني من بعض الحنين لعصر كانت فيه السلوكيات العنيفة شكلاً من أشكال الشجاعة والبطولة ومصدر قوة وفخر. 
وعلى الرغم من سخطه وهجومه على "عالم المثل" الذي جعل الناس حسب رأيه ينفصلون عن واقعهم إلا أنه يقر بأن لا مفر من الاعتراف بدور القانون الأخلاقي في توجيه البشرية نحو إيجاد حلول مقبولة لأزماتها. ونراه يطالب بضمير مثالي يكون دافعاً للحركة والتجديد وتحليل الأفكار وإعادة صياغتها بعيداً عن نزعة العقاب الذاتي القائمة على تفسيرات أخلاقية قبلية.. ولا زالت فصول القصة النيتشوية حول الضمير مستمرة لكن مع مؤسس علم التحليل النفسي "سيجموند فرويد" وتحديداً مع كتابه "قلق في الحضارة" الذي يصف فيه فرويد سلوك الضمير أو الأنا العليا تجاه الأنا وهي شخصية الفرد بسلوك الطاغية! 
إذ يرى فرويد أنه كلما تحكم الإنسان في عدوانيته، اشتدت الميول العدوانية للأنا العليا.. 
أما الشعور بالذنب فهو التعبير عن صراع الإزدواجية بين الحب وغريزة الموت والدمار. 
فالضمير حسب النظرية البنيوية لفرويد هو مجموعة الأوامر والتحذيرات التي ترسلها "الأنا العليا" حيث القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية والمجتمعية إلى "الأنا"،  وعلى ضوء ذلك فإن نشوء الضمير كان نتيجة العزوف عن الدوافع الغريزية منذ فرضت على البشر مهمة التعايش المشترك. 
وبما أن الحضارة تهدف إلى توحيد البشر في كتلة واحدة فلن يتأتى لها ذلك إلا بتعزيزها المتواصل للشعور بالذنب لدى الأفراد. 
ومن حيث أن الضمير هو وظيفة من وظائف الأنا العليا فإن المجتمع بوسعه تطوير "أنا عليا" جماعية يمكن استخدامها لتحقيق أهدافه الثقافية. 
والسؤال الذي علينا مواجهته الآن هو كيف يمكن للنفس وهي موطن التوازن والاعتدال والتوافق بين الرغبات والغرائز ومتطلبات الحضارة إعادة أجواء الهدوء والسلام إليها من خلال الضمير الفردي والجمعي؟ 
أولا: نعلم بأننا اجتماعيون بطبيعتنا ولا نستطيع فهم أنفسنا في كثير من الأحيان إلا من خلال الآخرين لكن هناك حقيقة تفرض نفسها على كل شيء ألا وهي:
 أن لا أحد كامل رغم وجود نزعة الكمال لدينا أو الإكتمال، والتي تدفعنا إلى أن نكون مقبولين اجتماعياً، ومنظمين، وقادرين على ترتيب أولوياتنا بشكل صحيح دون أن نمس أنفسنا والأخرين بأذى أو ظلم أو ضرر.
 ثانياً : إن الضمير الحي أو اليقظ صورة من صور التعاطف والتعاون بين البشر وهو ذو رؤية كونية، مستقلة وقادرة على فهم أكثر قوانين الكون عمقاً وتداخلاً واستيعاب مظاهر الإختلاف فيه والتكيف معه . 
ومن هنا يمكن القول بأن أحد أهم خصائص الضمير الحي السليم هي التحرر من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيما هو يحاول قدر الإمكان خلق حالة من الثبات والتوازن بتجنب حسم أموره بمعيار النفس المتصارعة مع رغباتها والمتذبذبة بين الحق والباطل. 
ثالثاً: صحيح أن اﻟﻀﻤير مركزه الذات إلا أنه يشترك مع الأخرين في صياغة الحياة العقلية الكلية للمجتمع الذي هو جزء منه، 
لذا كان لا بدّ من إﻳﺠﺎد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻮازﻧﺎت ﺑين القناعات الشخصية والمصلحة العامة . 
ويتحقق هذا التوازن من خلال احترام وحماية ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻀﻤير أي ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻜﺮ واﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺪاﺧلي للإنسان. 
حتى نصل بسلام وأمان إلى تحقيق المعرفة المشتركة عن طريق اﻟﻘﺎﻧﻮن أو اﻟﻀﻤير اﻟﻌﺎم. الذي ينظم الأفعال، ويتم الإحتكام إليه وقت الخلاف. 
رابعاً: إن الضمير ليس صوت الأب ولا المجتمع ولا السلطة أياًّ كانت.
الضمير هو صوت الهدف النبيل الذي خلقنا الله من أجل تحقيقه . 
هو صوت الذات الواعية بكرامتها، 
وبأنها تستحق أن تكون أفضل . 
صوت نضوج النفس.. 
هو صوت احساسنا بالآخر ... 
صوت خلاصة علمنا ومعرفتنا وتجاربنا. خامساً : إن بين المثالية والواقعية، والوسيلة والغاية، ثمة كلمة تجمع ولا تفرق، ألا وهي الضمير.
 قد يراه البعض صورة من صور الإلهام والحدس بينما يريد البعض الآخر من الضمير أن يكون تجسيداً لخبراته وتجاربه اليومية ليس في ذلك عند التطبيق تناقض أو سبب خلاف فالمهم هو أن نعرف أن الأساس الذي بني عليه كلا المفهومين كان نتاج وعي الإنسان بذاته وكونهما يسعيان إلى الخير فهما خير وارتقاء. 
 لكن علينا أن نتذكر دائماً ما عايشناه وتعلمناه من أزمات الضمير التي باتت قرينة واقعنا أن لا شيء أكثر خطراً على صحة ضمائرنا من الجهل والحقد. 
ولن نصل إلى ضمائر يقظة تنعم بالخير والسلام إلا باتقان فن الحب ولغة الحوار. ويبقى الإحترام...
 احترام النفس وكرامتها أولاً سلاح الحضارة الذي لا يهزم أبداً. 
وما من صوت يستحق أن نصغي إليه باحترام استثنائي أكثر من صوت بوصلتنا الداخلية صوت الضمير .

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟


ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟
لو قلت أن البساطة التى تعني العفوية والوضوح وسلامة النية والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتمويه و التكلف والتصنع هي سر من أسرار العبقرية فالاغلب أني على صواب.
ذلك أن الإنسان الذي يدرك البساطة التي كانت عليها الأشياء في بداياتها يستطيع قراءة النهايات وسيكون حينها قادراً على حل العقدة دون أن يقطعها ...
الإنسان البسيط بفطرته النقية يستسهل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ولا يتعكر مزاجه البسيط وذائقته الشفافة من غليان علاقاتها المتشابكة حوله وهو بالتالي لن يعاني خللاً في ادراكها ولا ارتباكاً في ادارة معطياتها ...
البساطة هي القاعدة الأولى والأهم من قواعد اللياقة العقلية والنفسية في الحياة تبدأ من الاكتشاف والخلق والإبداع إلى تحديد نمط العيش وصولا إلى طرق نقل الأفكار والتعاطي معها والتأقلم مع نتائجها...
كل فكرة تحلت بالبساطة أثبتت نفسها وصمدت لقربها من أصل تفكيرنا ومعتقداتنا وأحلامنا وحتى خيالاتنا ....
البساطة تحمينا من أن نكون تحت رحمة ظروف قد تدفعنا إلى أوهام التناقضات عندما نكون بعيدين كل البعد عن حقيقة ما نحمله في أعماقنا رغم زعمنا بأن الأولوية دائما هي لتاكيداتنا وحساباتنا التي قد تكون في كثير من الأحيان مسيئة وجارحة لصفاء سلامنا الداخلي ..
البساطة صفة فريدة بمنطقها الذي يدخل القلب والعقل بلا استئذان فهي ثمرة الوعي التام المكتمل حيث تعبر عن نفسها بالحفاظ على مسافات ثابتة حيادية في صراع الأضداد لتعطي للعلاقات بين الاختلافات أجواء تنافسية جاذبة ...
وهي رغم تنوع أدوارها إلا أنها دائما ما تبدع في تفسير وتنظيم وترتيب كل شيء بتجرد ونزاهة...
في القانون هي النظام ...
في السياسة هي قرار الإرادة الحرة الواعية ...
في العلوم هي المبدأ الذي تستند علي حكمته وغايته النبيلة النظرية...
في الفنون هي الإبداع ...
في السلوك هي الإعتدال ... في القول هي الصدق ...
في الحب هي حضارة قلب ولغة شعور....
البساطة ببساطة هي موسيقى الفكر الأنيق المهذب المتعلم... وعنوان الوجود المتحضر...
ملاحظة :
إذا لم تكن من أنصار البساطة أو كنت ممن يرون في التعقيد والتجارة بالمظاهر قوة ونوعا من أنواع الذكاء والدهاء فأرجو أن يساعدك ذكاؤك في هذا الشأن فلا تكن كقاطع طريق على دروبها وبالتالي عدم استغلالها ومحاولة انتزاعها او اجتثاثها حسب اعتقادك من نفوس الآخرين..
فالبقاء يا أيها الناس للأجمل أي للأكثر بساطة ..

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...