الثلاثاء، 21 مارس 2017

في مدرسة أمي...


صباح الخير أمي... 
صباح الحب الخالد يا سيدة الحنين.
يا نشيد كل يوم...  
وهذا اليوم الذي يحتفل فيه بكِ العالم ويزهر بعاطفتكِ التي أقسمت على نفسها  بأن تكون الرافد الحقيقي لنهر حب كوني .. 
ماذا أقول في حضرة عينيكِ هذا الصباح أمي؟ 
ماذا يقول من نسي رغم الأيام والتجارب أن يكبر؟
 فأنا على حالي ما زلت طفلتك المدلّلة العنيدة المشاكسة المحتاجة إلى سلام يديكِ الحانيتين لتمسح عن جبيني أشباح السنابل الفارغة وتعيذني بدفئها من تجاعيد الحزن الباردة. 
وما زلت أنتظر كأطفال الملاجئ ارتماء نجمتي الحارسة في ناحية هادئة، صافية  من سماوات قلبكِ..
ماذا أقول لأمي في يومها المبارك؟
بأي كلمة يبدأ بها الفاقدون المفقودون مثلنا صباحات أعيادهم؟
 هل أقول أن الغياب وهم الخائفين، كما هو الموت حُجّة كسالى الروح لتبرير غيابهم. 
هل أقول بأن أجمل الممكنات، وأكثرها صدقًا وسطوعًا على الإطلاق، أن تظلّ ملامحها الغالية محفوظة في مرآة القلب رغم الغياب..
فكيف إذًا لو ارتسم على هاته الملامح طيف ابتسامة تبدّد الحزن وتنفيه.
وفي ابتسامة الأم يتجلَّى جوهر الحضور، فلا تبصر فيها العين أيّا من عوارضه، ولا تنشغل النّفس ثانية بتبدُّلاتِ أحواله..
فمن تعلَّم الحب في مدرسة الأمومة، وارتوى من جداول أبجديات الحنان فيها، يعرف تمام المعرفة بأنّ ابتسامة الأم لا تغيب.
تبتسم أمّي في كلّ مرَّة أخطأ فيها الهمُّ طّريق قلب أحد إخوتي .
وتبتسم أيضًا كلما أحببت في ذاتي صفة كانت تتحلى بها، أو اكتشفت بعيون الناس ملْمَحًا لديَّ يشبهها.
وتطلّ من الغياب ابتسامتها إذا ما استمعت إلى أغنيتها المفضّلة، واشتعل بدل الدّمع في عينيّ، سراج صوتها الحنون في الذاكرة.
وتبتسم أكثر كلّما طال النّقاش وتباينت بيني وبين (رفيق روحي) نقاط الاختلاف حول المكان الأجدر بصورتها...   
حين يختار هو بعفوية متعمدة، المكان الأجمل والأقرب إلى قلبه، بحيث أستسلم أنا للصمت راضية، ومكتفية مع كل هذا الحب لها بدوام ابتسامة أمّي..
من قال أنّ ابتسامة الأمّ قد تغيب؟!
فكلّما تقدم "ضمير الدّنيا" خطوة في تصالحه وتعامله مع النّساء بطريقة أكثر لطفًا، وأعمق فهمًا، وأرقى حضارية.
رأيت أمي تبتسم....
وفي كلّ مرَّة انتصرت فيها الحكمة على ضجيج المعارك وغبائها وعاد الرّجال إلى أطفالهم سالمين.
أو كتب القدر السّلامة لأمٍ أنساها وجه وليدها ألم وخوف الولادة.
كنت أرى أمّي تبتسم.
وكلّما تتحققت نبوءة صبرٍ قالت فيها أمٌّ لأحبِّ النّاس على قلبها: " غيمة صيفٍ وستمرّ"
شعرت بأمي تبتسم..
في عيدك  قالوا وقلت عنكِ الكثير أمي ..
الكثير الكثير ولم نقل شيئاً..

الخميس، 16 مارس 2017

رســـالة حــــــب

 

 
 
أكتب لك.. 
  وأعلم أني مهما حاولت لن أجد مفردة قادرة على احتواء ما يجول في البال من مشاعر في كل مرة أحاول فيها استحضار عينيك بوصلة قلم ومداد فكر.
وحقيقة الحال أني كلما أبحرت أكثر في تفاصيل هذا النوع الفريد من التخاطر بيننا زاد تعلق العاطفة بدلالات صمتها.
لكن، لا شيء أجمل من أن تحولني تلك المشاعر إلى توأم نقطة ضائعة ما بين حلاوة البدايات وأعماق النهايات.
أو كلمة حب من نور ونار لا تفارق يديك النقيتين .. 
كلمة تعرف حين أسكبها في عروق العاطفة كيف تشعل أوراقي المجبولة بفهارس الحب في قلبك بوهج حُمْرَة صافية كأنها لون وجه صيف أطلّ على الوجود من شقوق آيار.. 
فتعال أكتبك بأبجدية شغفت بك جواباً. 
وانصت معي إلى متتالية لغوية خبأت فيها  كل ما في عينيّ من شوق لا نهائي، وحب صقلته استقامة جبينك العذب، لأسافر فيك كطائر الأحلام من غربة الكلام وغرابته إلى جنة المعنى..  
إلى وجه وطن يحمل عنا عبء غموض المسافات كلما اشتاقت عناصر خطاباتنا إلى أزلية أبعادها، ويأخذنا إلى حيث تلتحم الثنائيات، بتناسب يوحد القلوب ويجمعها، رغم تفردها واختلاف أحوال أصحابها؛ 
لينثرها عطراً على أكتاف العناق. 
رسائل الحبّ: هي كلماتنا التي لَبَّت نداء الوجد، فانتفى بصدق حضورها ألم الغياب.. 
هي أقدارنا التي فهمت صمت شفاهنا فأحببنا استسلامنا لها... 
هي حنين الحكايات إلى جزئية مرئية في ثناياها.
هي مهارة تَذَوُّق طبائع الواقع الممزوجة بالخيال.
هي النَّكهة المعتَّقة لأشواقنا. 
هي ما تقوله تقاسيم الرّوح للإحتفاء بقداسة الذكرى. 
فهل نملك للحبّ في رسائلنا ما هو أعظم من اضطراب الزمان بتداخل عباراتنا. 
فلا "قبل" تضيع في بواطنه براعم كلماتنا. 
ولا "بعد" يقطفها .. 
بل إحساس أصيل يحرسها ويحميها من مصير طغيان بحار الكآبة والرتابة.
كما أن في اقتران اللغة بالعشق فنّ حياة وعلامة خلود، يهب للّغة ولادة ثانية، فتصير بيضاء نقية، كأثواب طفولتنا العاجية. 
وكلّ ميلادٍ لك فيه نصيب هو مناسبة للفرح، وإطلالة عيدٍ عذبٍ وشهيّ للحبِّ والحريَّة.
  أكتب لك وأعرف يا قرار العقل وحرية القلب، أن للعاطفة بوحًا  لا يفهمه إلا من أتقن التخاطب والتمازج بطريقة الأعاصير.
وكنت قد رأيت في افتتان الناس بنقوشهم القديمة، أن الكتابة هي معادلة الضرورة التي دائما ما نلجأ إليها من فرط شغفنا للتعبير عن كل حالة شعورية نعيشها ولا نستطيع فهمها أو تفسيرها.. 
لكنني أكتب الآن لأقول لك كيف تعلمت حفظ مواعيد حضورك في شراييني برغم انعكاس الشوق على نافذة الإنتظار ، وحنيني إلى مقاصد ذلك الجهل المحبب الذي كانت تفرضه علينا أناقة السؤال. 
ولأخبرك أن بعض الزمان من حولي غاب وجزء منه انتهى وتلاشى.  
لكن عطرك بقي ملتصقاً بروحي، تحمله بسلام أحصنة الشوق إلى ذاكرتي فارساً نبيلاً لا تزعزعه عوارض الغياب، ولا تقلبات السنين .. 
أكتب لك وعنك و أتساءل: 
كيف لي أن أجمع من زوايا الكون شعاع حروفي وفي فضاء عينيك البرّاقتين  نجمتان تتنافسان على الفوز بما يجود به وجهك القمري من ضوء وجاذبية... 
وعيناك هجرتي الشرعية إلى مواطن الروح.
ورود مدائن بحرية، وشرفات حرية تحاكي الطيف في اندماج ألوانه ... 
أسير فيها بلهفة أمل تجاوز حدود الممكن وقواعد اللياقة ... 
يلهمني وصف ابتسامة هي غاية ومقصد كل ما أطلب وأتمنى.
أتأملها في مِلء أوقاتها وفصولها، 
هي كعينيك لا تعرف لوماً ولا غياباً، ثابتة مستقرة كذهب كلماتنا،
متجددة كثمار أتقنت تآلفها.
شفافة كصوتك البحري حين تداعبه أشرعة العودة فيسطع من وهج شفتين يتجمع فيهما ضوء ناعم كبلّورات السكر سر أغنيات مساءات حضورك الفضية .. 
يا دهشتي التي منحتني إكْسير التجدد. 
 لك وحدك تقرع طبول الحب ويحلو احتلال القلب.. 
برشاقة نظرة فاتنة تحمل نداءً سحرياً للفرح. بعذوبة حديث نذرناهُ بستان ورد
بنسائم أفكار تشكلت فردوساً مكتمل التكوين والصورة. 
بصمت ألذ وأشهى من فاكهة صيفية.. 
بصدق حضور تنساب منه المواقف سلاماً مضيئاً. 
بعزف جريء على أوتار المعاني كأنه نقاط ضوء تتسابق في مدارات كونية. 
لم أقل شيئا بعد يا أيها المسافر بين محطات وجودي بهوية عشق أبدي.. 
فلا زلت أتخبط في حيرتي،  وأصارع لغتي علها تأتي بما يليق. 
 ولا حيلة لدي سوى الاستمرار في رسم خرائط سرية لعناوينك في الذاكرة؛ 
 حتى أتمادى في التيه على طول مواسم غابات عينيك الخضراوتينْ، ثم أتحول بعدها بكلمة منك إلى أثير يحيا بأنفاسك،  ليتشكل مطراً جديداً يهطل على قارات حبك الماسية. 
 وإن كان لا بدّ من هطول، فليكن هطول النور من أبجدية عينيك الساحرتين..
تلك الأبجدية التي تختصر حروفها أسرار القيثارات والكمنجات في طقوسها وأناشيدها .. 
أحبك، وسأظل أكتبك متجاوزة استحالة ايجاد منطق لغوي يعصم المفردات من عجزها وقصورها وحاجتها إلى كسر كل الأوزان الشعرية..
 ويقيني  أنك أنت من يستطيع قراءة حبي بلغته الأصلية ولا شيء لديّ سوى تأويلات حبك أكمل بها وحي الإستعارات سلام لعينيك حين تقرآن حروفي وسلام لقلبك حين يعانق نبضها ... 
أمّا أنت أيها المعنى كن كما عهدناك دائماً كريماً وفياً ونمّ قرير العين على صدر رسائلنا !!

السبت، 5 نوفمبر 2016

قراءات في الذات الإنسانية: الضمير


 
هو جبل شاهق وسط جزيرة معزولة في أعماق النفس، راسخٌ في تربتها الملأى بالمعاني كالحقيقة، 
تحيطه من جميع الجهات أفكار ورؤى وتصورات يعلن بها وجوده الفعلي في وعينا بصيغة أحكام وقواعد ومبادئ تستلهم مضمونها من علو يرانا ولا نراه، يدركنا ولا ندركه.
 يعلو صوته حيناً وينخفض حيناً، 
لكن ما يميزه أنه يعرف جيداً كيف يستجيب لنداء رغباتنا بل كثيراً ما يتجاهلها حتى يتسنى له فرض أحكامه ورؤاه على ارادتنا دون أن يستثني تلك التي كنا نعتقد بأننا قادرون على اخفائها. 
وكأن كل ما يقوله لنا لا يعنى إلا شيئاً واحداً، شيئاً محفوراً في وجدان كل واحد منا،
 وهو بلا شك في غاية الأهمية والإنسانية، 
يناظر وقفة الإنسان الأولى على أديم هذه الأرض وادراكه لأول مرة امتداد بصيرته إلى ما وراء الأفق...
 إلى نقطة تحرره من عبثية الفكرة والموقف .. شيءٌ يجعلنا على قيد الإنتماء لنوع حي يعقل، يعي، ويشعر . 
ويدفعنا إلى تلك النبضات الواعية القادمة من أعماقنا، إلى الإستماع لها، والإحتكام إليها، والإحتماء بالود الذي تخاطبنا به ليل نهار... 
عن أي أمرٍ أو شيءٍ أتحدث ؟؟
 عن الضمير نعم.
 أتحدث عن إحساس "الأنا" بصوابها وخطئها، عن الصوت الداخلي الغامض الذي لا يهدأ، عن صوت النور الداخلي. 
فما هو الضمير ؟
 بدايةً يمكن تعريف الضمير بأنه استعداد نفسي داخلي لإدراك الصواب والخطأ، وسمة أصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية. وبالإعتماد على المعنى الذي تتضمنه كلمة الضمير اليونانية συνείδησης أو syneídisi فالضمير موضوعاً هو الوعي أو الإدراك. 
ذاتياً: هو ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺬات ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺬات وإصدار أحكام تقويمية على أفعالها ..
 أما الضمير وفق المنظور الديني هو اثبات الكرامة الإنسانية ، ونور وصايا الله في نفس المؤمن، والذي يقودها إلى التقوى في قول وفعل الحق والخير والتزام الفضيلة مما يجعل نسيج النفس مرناً ومتماسكاً وخالداً في نعيم لا ينتهي.. 
هل الضمير ولادي أم مكتسب؟ 
لو افترضنا أن الضمير أمرٌ فطري، فهذا يعني أن الضمير قوة أخلاقية ولادية تولد مع الإنسان بحيث تكون النفس مزودة بقدرة التمييز بين الصواب والخطأ وامكانية ضبط الإرادة لتجنب الخطأ. 
يتفق ذلك إلى حد ما مع نتائج الأبحاث والدراسات التى قام بها الباحثون في هذا المجال على أخلاق الأطفال الرضع بهدف اثبات مإ إذا كانوا يمتلكون معرفة تمكنهم من التمييز بين الحق والباطل، وذلك من خلال مراقبة نظراتهم وتصرفاتهم وكيفية تفاعلهم مع الخيارات الصحيحة والخاطئة التي تطرحها الإختبارات.
 لكن، وعلى الرغم من النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسات حيث أظهرت بالفعل وجود الحس الأخلاقي الشامل لدى الأطفال إلا أنها حتى اللحظة لم تحسم الجدل حول إن كانت تصرفات الأطفال نابعة من التعاطف أو من معرفة الخير والشر. 
ذلك أن دور الضمير حسب مفهوم علم السلوك وعلم النفس التطوري هو تعزيز الإيثار المتبادل بين الأنا والآخر.
 أي عمل الخير مقابل المعاملة بالمثل وصولاً إلى أعلى درجات الرقي والوعي الضميري وهي التضحية والإيثار الحقيقي المحايد أي عمل الخير دون شرط أو انتظار مقابل.
 ولو قلنا أن الضمير عاطفة متعقلة ،
 فهذا يعني أن المعتقد الداخلي أي الضمير مكتسب، أي أنه يتشكل ويتطور خلال مراحل حياة الإنسان، ويتم صقله بالتربية وبواسطة التجارب التي يخوضها الفرد مع محيطه. 
هذا بالإضافة إلى أن رقابة المجتمع بكل ما تفرضه من مفاهيم وعادات وقيم تؤثر بشكل كبير في الطريقة التي يصوغ بها الضمير أحكامه . 
والرأي الأخير هو الرأي الذي تميل إليه الفلسفة وعلم النفس المعاصرين، فالضمير صفة مكتسبة على اعتبار أن الضمير الفردي لا يمكن أن يصوغ أحكامه إلا بناءً على وعي الإنسان بمسؤولياته ودوره بالمجتمع وتربيته وخبراته وظروف حياته . 
لكن، وسؤال لمع في ذهني الآن ألا وهو كيف يخالف الضمير الفردي الضمير الجمعي في كثير من الأحيان بل وتكون أحكام الضمير الفردي أكثر صوابا ومنطقية وابداعاً ؟ 
والأمر الذي لا يمكن تجاهله في هذا الموقف هو كيف يمكن للضمير أن يستنبط حكما بواسطة قيم جمالية نسبية، ومن خلال شعور الفرد بلذة السلام الداخلي والراحة والسكينة مع نفسه أثناء اتخاذه قرارا معينا أو قيامه بتصرف ما ، وبغض النظر عن رأي مجتمعه وحتى أقرب المقربين له.
 لتثبت الأيام فيما بعد صواب وصحة حكم الضمير الفردي وتفوقه. 
غير أن المفهوم السائد الذي يرى الضمير أداة تأنيب لا تمرد تجعل الضمير الجمعي في الواقع هو من ينتصر في النهاية ... 
ويبقى الفرد في مساحة الخيال الخاصة به، ينشأ عليها عالمه المثالي ونماذجه الروحيه وادراكاته الخاصة للقيم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. 
 هل يمكننا القول إذاً بأن الضمير مصدر من مصادر المعرفة ؟ 
نعم، في حال كان الضمير حياً نابضاً بالحركة كشمس تحتضن حدثاً ديناميكياً و تصالحياً بين العقول والقلوب، وقمراً مكتملاً يسهر على حفظ الكرامات والحقوق الإنسانية، 
فالضمير اليقظ هو الضمير الذي لا تتوقف محاولاته في مجالات المعرفة الذاتية والإصلاح الشخصي من خلال تحفيزه للفرد على القيام بعمل الخير، وتوجيه النقد الذي قد يكون لاذعاً وقاسياً في حال ناقض الإنسان ما يحمله من مبادئ او ارتكب خطأ ما .. 
وهنا قلق يخطر في البال متنكراً بهيئة سؤال ومضمونه هل يموت الضمير ؟ 
نعلم بأن النفس البشرية مزيج من الخير والشر وما دام الخير والكمال المطلقين أمر غير متاح بشرياً ونفس القاعدة تنطبق على الشر المطلق ، فذلك يعني أن بذرة الخير في النفس الإنسانية لا تموت والصحيح أن إهمالها وتجاهلها هو ما يبقيها حبيسة الأعماق المظلمة فيختنق صوتها ويضيع وسط ضوضاء أعباء الحياة ومشاغل النفس وهمومها وما أكثرها في زمن مادي متسارع... 
أما الضمير كأداة معرفة وتوجيه وتمييز بين الحق والباطل نعم يموت بموت انسانية صاحبه . 
والمعنى الذي أقصده هنا هو حين يعتبر الإنسان نفسه أو غيره كائناً ملائكياً منزهاً عن الخطأ، أو شيطاناً لا يستحق إلا اللعنة.. 
يموت الضمير بغرور الإنسان وأنانيته وجهله وتعصبه لقناعات تحرمه متعة تجديد وتحريك الراكد فيه وتسلبه حرية وزن الأمور وتقييمها أو بسلوك أعمى متسرع يقوده إلى هاوية الفقد والخسارة .. 
نعم الضمير كصاحبه يذبل ويموت قهراً إذا تم التعامل معه بسطحية ولامبالاة وتذوب روحه في ماء النسيان كمداً جَرَّاء الإقصاء والتهميش.. 
والسؤال الذي يفرض نفسه لفهم أكثر وضوحاً ودقّة وهو: 
هل هناك ضمير عدو وضمير صديق ؟ 
بمعنى آخر هل يمكن أن ينقلب الضمير على صاحبه؟ 
بعيداً عن كل ما هو ذاتي وفي محاولة للإجابة على السؤال المطروح وايجاد مفهوم أكثر توازناً ومعقولية للضمير كان لا بد من المرور مع مراعاة الإختصار الشديد على أراء من أشبعوا هذا المصطلح دراسة وتحليلا ونقداً وعلى رأسهم فريدريك نيتشه ( 1844 - 1900)م فيلسوف المطرقة والإنسان المتفوق. 
يعتقد نيتشة ان الضمير قد ينحرف عن مساره حين يبالغ في توجيه اللوم والإتهام والنقد لداخل الذات بدلا من محاسبة الأطراف الخارجية التي ارتكبت الخطا. والسبب الذي أدّى إلى ذلك برأيه يكمن في وجود القيود الإجتماعية والدينية التي أجبرت الفرد على تجنب الأفعال اﻟﻌﺪواﻧﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ التي هي من صميم تكوين الجنس البشري وحرمان الإنسان من متعة اﻟﺘﻠﺬذ ﺑﺎﻻﻧﺘﻘﺎم مما دفعه إلى أن يقوم بتصريف شحنات العنف إلى الداخل. 
كما أن تأنيب الضمير بالنسبة لنيتشه هو شيء غير جدير بالتقدير. 
إذ لا يجب أن يتنكر الإنسان لعمل بعد القيام به، بل عليه أن يقبل بالنهايات السيئة لعمله وعدم محاولة البحث عن أي قيمة في الرجوع عنه. 
ذلك أن الإنسان حينها يفقد القدرة على رؤية تلك النتائج بشكل صحيح، بل إن عملاً أخطأ الهدف في رأيه يستحق التقدير أكثر .
 هنا الضمير حسب وصف نيتشه بات مشكلة حقيقية وليس حلاً، وبتعبير أكثر صراحة أصبح الضمير أداة تعذيب ومصدر قلق للذات، وهو يرى أيضاً أن خصائص الضمير وهي اللوم المستمر، والنقد، وعدم الرضى، كفيله بأن تجعل أصحاب الضمائر الحية يعانون بشكل دائم من حالة شعورية مضطربة وغير مستقرة .
 لكن، في المقابل فإن رضى الضمير عن أفعال صاحبه يعكس وجود مشكلة أخلاقية. والآن هل نجح نيتشة فعلا في وضع الضمير في مأزق حقيقي؟؟ 
برأيي أن كل هذا الاضطراب المنسوب للضمير ليس إلا نتيجة ﻹدراك أﺧﻼﻗﻲ ﺳﻄﺤﻲ وﻏير ﻣﻜﺘﻤﻞ لمفهوم الضمير وطبيعة الشخصية الإنسانية ومكوناتها. 
فالمشكلة ليست في الألم الذي يسببه الضمير لصاحبه عندما يرتكب خطأ ما ، بل في عدم إدراك وفهم الأسباب الكامنة وراء ذلك الألم. وبلا شك أن التأديب الذي يقوم به الضمير يدفع صاحبه إلى تصحيح سلوكه ومواجهة أخطائه ومعالجتها بأقل الخسائر. 
وهو ما يمكن اعتباره فرصه ذهبية ليصبح الإنسان أفضل.
 كما أن تضخيم الأخطاء، واعطائها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي يمكن اعتباره مسببا رئيسياً في كل ما يعانيه أصحاب الضمائر من ضيق وآلام. 
والمقصود أنه عندما يطغى صوت الخطأ على صوت الإصلاح أو الضمير، تبقى النفس على حالها في حالة ضياع وحيرة، فلا هي قادرة على معالجة الخطأ من ناحية، ومن ناحية ثانية باتت عاجزة عن التفاهم مع صوتها الداخلي الذي لا يتوقف عن تأنيبها . 
أعلم أن فلسفة نيتشه كانت وليدة تجاربه وملاحظاته وتأملاته في الطبيعة حيث استمد منها حقائقه وتفسيراته للظواهر الإنسانية التي كان يبحث فيها بآليات فيزولوجية، انتقائية، وناقدة. 
لكن لا بدّ لي من القول بأن أراءه هنا لم تكن إلا ردود أفعال على كل سلطة فرضها زمانه عليه، سواء كانت دينية أم مجتمعية، وبكل تأكيد لم يكن عبثاً ذلك المزج بين تسلط أصواتها وصوت الضمير الداخلي حين نراه يصرح مثلاً بأنه في عاداته السلوكيه وأفكاره دائم التطلع إلى كل ممنوع وكيف لا يكون كذلك وهو كما يقول تلميذ لــ"ديونيسوس" إله الخمر في الميثيولوجيا الإغريقية، وملهم طقوس الجنون والابتهاج والنشوة..
وأنه يمتلك يقيناً غريزياً يمكنه من معرفة ما هو صحيح وضروري بمعنى أنه إنسان معافى بجوهره الغريزي . 
نعم، لا شكّ في أن صوت مطرقة أفكار نيتشة الصريحة جعلني أتفهم جيداً موقفه الرافض لجمود الفكر وإصرار الناس على جعل بعض الأفكار والمعتقدات أصناماً يجب تقديسها. 
بالتالي فأنا لا أملك أمام جرأته وتحليقه في فضاءات جدلية ،صادمة ومتناقضة إلا الإعتراف بتميزه سواء اتفقت معه أم لا. 
لكن هناك برودة في فلسفته حول الضمير تعادل برودة الجليد حيث تخلو بيئتها من وجود الكثير من المعاني التي تعطي لحياة قائمة أساساً على التعاطف والتضحية والتنازلات قيمة ، وللنفس الإنسانية التي تميل إلى الإجتماع والتعاون والصداقة معنى وهدف. 
نيتشة، في كتابه "Ecce Homo: هذا هو الإنسان" وإن كان يعاني من بعض الحنين لعصر كانت فيه السلوكيات العنيفة شكلاً من أشكال الشجاعة والبطولة ومصدر قوة وفخر. 
وعلى الرغم من سخطه وهجومه على "عالم المثل" الذي جعل الناس حسب رأيه ينفصلون عن واقعهم إلا أنه يقر بأن لا مفر من الاعتراف بدور القانون الأخلاقي في توجيه البشرية نحو إيجاد حلول مقبولة لأزماتها. ونراه يطالب بضمير مثالي يكون دافعاً للحركة والتجديد وتحليل الأفكار وإعادة صياغتها بعيداً عن نزعة العقاب الذاتي القائمة على تفسيرات أخلاقية قبلية.. ولا زالت فصول القصة النيتشوية حول الضمير مستمرة لكن مع مؤسس علم التحليل النفسي "سيجموند فرويد" وتحديداً مع كتابه "قلق في الحضارة" الذي يصف فيه فرويد سلوك الضمير أو الأنا العليا تجاه الأنا وهي شخصية الفرد بسلوك الطاغية! 
إذ يرى فرويد أنه كلما تحكم الإنسان في عدوانيته، اشتدت الميول العدوانية للأنا العليا.. 
أما الشعور بالذنب فهو التعبير عن صراع الإزدواجية بين الحب وغريزة الموت والدمار. 
فالضمير حسب النظرية البنيوية لفرويد هو مجموعة الأوامر والتحذيرات التي ترسلها "الأنا العليا" حيث القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية والمجتمعية إلى "الأنا"،  وعلى ضوء ذلك فإن نشوء الضمير كان نتيجة العزوف عن الدوافع الغريزية منذ فرضت على البشر مهمة التعايش المشترك. 
وبما أن الحضارة تهدف إلى توحيد البشر في كتلة واحدة فلن يتأتى لها ذلك إلا بتعزيزها المتواصل للشعور بالذنب لدى الأفراد. 
ومن حيث أن الضمير هو وظيفة من وظائف الأنا العليا فإن المجتمع بوسعه تطوير "أنا عليا" جماعية يمكن استخدامها لتحقيق أهدافه الثقافية. 
والسؤال الذي علينا مواجهته الآن هو كيف يمكن للنفس وهي موطن التوازن والاعتدال والتوافق بين الرغبات والغرائز ومتطلبات الحضارة إعادة أجواء الهدوء والسلام إليها من خلال الضمير الفردي والجمعي؟ 
أولا: نعلم بأننا اجتماعيون بطبيعتنا ولا نستطيع فهم أنفسنا في كثير من الأحيان إلا من خلال الآخرين لكن هناك حقيقة تفرض نفسها على كل شيء ألا وهي:
 أن لا أحد كامل رغم وجود نزعة الكمال لدينا أو الإكتمال، والتي تدفعنا إلى أن نكون مقبولين اجتماعياً، ومنظمين، وقادرين على ترتيب أولوياتنا بشكل صحيح دون أن نمس أنفسنا والأخرين بأذى أو ظلم أو ضرر.
 ثانياً : إن الضمير الحي أو اليقظ صورة من صور التعاطف والتعاون بين البشر وهو ذو رؤية كونية، مستقلة وقادرة على فهم أكثر قوانين الكون عمقاً وتداخلاً واستيعاب مظاهر الإختلاف فيه والتكيف معه . 
ومن هنا يمكن القول بأن أحد أهم خصائص الضمير الحي السليم هي التحرر من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيما هو يحاول قدر الإمكان خلق حالة من الثبات والتوازن بتجنب حسم أموره بمعيار النفس المتصارعة مع رغباتها والمتذبذبة بين الحق والباطل. 
ثالثاً: صحيح أن اﻟﻀﻤير مركزه الذات إلا أنه يشترك مع الأخرين في صياغة الحياة العقلية الكلية للمجتمع الذي هو جزء منه، 
لذا كان لا بدّ من إﻳﺠﺎد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻮازﻧﺎت ﺑين القناعات الشخصية والمصلحة العامة . 
ويتحقق هذا التوازن من خلال احترام وحماية ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻀﻤير أي ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻜﺮ واﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺪاﺧلي للإنسان. 
حتى نصل بسلام وأمان إلى تحقيق المعرفة المشتركة عن طريق اﻟﻘﺎﻧﻮن أو اﻟﻀﻤير اﻟﻌﺎم. الذي ينظم الأفعال، ويتم الإحتكام إليه وقت الخلاف. 
رابعاً: إن الضمير ليس صوت الأب ولا المجتمع ولا السلطة أياًّ كانت.
الضمير هو صوت الهدف النبيل الذي خلقنا الله من أجل تحقيقه . 
هو صوت الذات الواعية بكرامتها، 
وبأنها تستحق أن تكون أفضل . 
صوت نضوج النفس.. 
هو صوت احساسنا بالآخر ... 
صوت خلاصة علمنا ومعرفتنا وتجاربنا. خامساً : إن بين المثالية والواقعية، والوسيلة والغاية، ثمة كلمة تجمع ولا تفرق، ألا وهي الضمير.
 قد يراه البعض صورة من صور الإلهام والحدس بينما يريد البعض الآخر من الضمير أن يكون تجسيداً لخبراته وتجاربه اليومية ليس في ذلك عند التطبيق تناقض أو سبب خلاف فالمهم هو أن نعرف أن الأساس الذي بني عليه كلا المفهومين كان نتاج وعي الإنسان بذاته وكونهما يسعيان إلى الخير فهما خير وارتقاء. 
 لكن علينا أن نتذكر دائماً ما عايشناه وتعلمناه من أزمات الضمير التي باتت قرينة واقعنا أن لا شيء أكثر خطراً على صحة ضمائرنا من الجهل والحقد. 
ولن نصل إلى ضمائر يقظة تنعم بالخير والسلام إلا باتقان فن الحب ولغة الحوار. ويبقى الإحترام...
 احترام النفس وكرامتها أولاً سلاح الحضارة الذي لا يهزم أبداً. 
وما من صوت يستحق أن نصغي إليه باحترام استثنائي أكثر من صوت بوصلتنا الداخلية صوت الضمير .

الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟


ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟
لو قلت أن البساطة التى تعني العفوية والوضوح وسلامة النية والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتمويه و التكلف والتصنع هي سر من أسرار العبقرية فالاغلب أني على صواب.
ذلك أن الإنسان الذي يدرك البساطة التي كانت عليها الأشياء في بداياتها يستطيع قراءة النهايات وسيكون حينها قادراً على حل العقدة دون أن يقطعها ...
الإنسان البسيط بفطرته النقية يستسهل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ولا يتعكر مزاجه البسيط وذائقته الشفافة من غليان علاقاتها المتشابكة حوله وهو بالتالي لن يعاني خللاً في ادراكها ولا ارتباكاً في ادارة معطياتها ...
البساطة هي القاعدة الأولى والأهم من قواعد اللياقة العقلية والنفسية في الحياة تبدأ من الاكتشاف والخلق والإبداع إلى تحديد نمط العيش وصولا إلى طرق نقل الأفكار والتعاطي معها والتأقلم مع نتائجها...
كل فكرة تحلت بالبساطة أثبتت نفسها وصمدت لقربها من أصل تفكيرنا ومعتقداتنا وأحلامنا وحتى خيالاتنا ....
البساطة تحمينا من أن نكون تحت رحمة ظروف قد تدفعنا إلى أوهام التناقضات عندما نكون بعيدين كل البعد عن حقيقة ما نحمله في أعماقنا رغم زعمنا بأن الأولوية دائما هي لتاكيداتنا وحساباتنا التي قد تكون في كثير من الأحيان مسيئة وجارحة لصفاء سلامنا الداخلي ..
البساطة صفة فريدة بمنطقها الذي يدخل القلب والعقل بلا استئذان فهي ثمرة الوعي التام المكتمل حيث تعبر عن نفسها بالحفاظ على مسافات ثابتة حيادية في صراع الأضداد لتعطي للعلاقات بين الاختلافات أجواء تنافسية جاذبة ...
وهي رغم تنوع أدوارها إلا أنها دائما ما تبدع في تفسير وتنظيم وترتيب كل شيء بتجرد ونزاهة...
في القانون هي النظام ...
في السياسة هي قرار الإرادة الحرة الواعية ...
في العلوم هي المبدأ الذي تستند علي حكمته وغايته النبيلة النظرية...
في الفنون هي الإبداع ...
في السلوك هي الإعتدال ... في القول هي الصدق ...
في الحب هي حضارة قلب ولغة شعور....
البساطة ببساطة هي موسيقى الفكر الأنيق المهذب المتعلم... وعنوان الوجود المتحضر...
ملاحظة :
إذا لم تكن من أنصار البساطة أو كنت ممن يرون في التعقيد والتجارة بالمظاهر قوة ونوعا من أنواع الذكاء والدهاء فأرجو أن يساعدك ذكاؤك في هذا الشأن فلا تكن كقاطع طريق على دروبها وبالتالي عدم استغلالها ومحاولة انتزاعها او اجتثاثها حسب اعتقادك من نفوس الآخرين..
فالبقاء يا أيها الناس للأجمل أي للأكثر بساطة ..

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

الأمل...فريدريش فون شيلر




يتكلم الناس ويحلمون كثيراً بأيام أفضل في المستقبل ..

حتى وهم يرون الهدف الذهبي يتجاوزهم مبتعداً 
قد يصبح العالم هزيلاً وهرماً لكنه سيعود مرة اخرى نضراً فتياً 
لذلك يتمنى الانسان الأفضل دائماً..

وفي أعماقه أمل يقوده إلى الحياة..
أملُ... يفتن عقل الفتى المرح حين يحلق حوله بأجنحته السحرية ...
ولا يفنى مع الشيخ الذى أنهى مسيرته الشاقة في القبر فهو لا زال هناك يغرس نفسه وينبت كالأمل ...
الأمل ليس كذبة أو وهماً مخادعاً في أدمغة الحمقى...
هو صوتٌ قوي يعلن في القلب أننا ولدنا لنكون أفضل ...
وما ينطق به الصوت الداخلي في الأعماق لا تُضله النفس المسكونة بالأمل..
___________
فريدريش فون شيلر شاعر وكاتب كلاسيكي ألماني (1759-18055)

الأحد، 31 يوليو 2016

تنــاقضــات...

هو حي...
بطريقة ما يشعر بأنه حيّ، و لا زال يلفت النظر إليه كل يوم بغيبوبة مفتعلة ينهي بها تأرجح صراعه الطفولي مع أولئك الطامحين مثله في الحصول على حلمٍ ترتديه وسائدهم الناعمة خلال الليل ...
وكم يحب التعثر بالصدى والمسافات، وأن يتعرض ككل كائن يتفاعل لإغواء السراب، ويسعده كثيراً أن يكون انعكاساً بشرياً للون الغالب في خرائط الجغرافيا!
حي هو ... وبنتيجة حيادية مصقولة ببعض الحظ يؤكد لنفسه ذلك... إذ أنه لم يكن غنيمة حرب عبثية ، ولا فريسة لأوامر ذائقة قد تقف بينه وبين حريته فأصبحت تلك الحياة قيمته التي ولدت من جديد ...
حي هو ...عمليّ وعصريّ ... لم ينتظر كرم البخلاء ورعشة أيديهم حين تتشابك أمامه بحرص كما تفعل تجارب الأيام في مواسم القحط واللؤم والبلاء ... بل عرف كيف يعيش على هامش طريقة تفتقد لجزالة فن الحب وابداعاته... مع اقراره بأهمية أن يكون في الوقت والسلوك نفسه رومانسياً وحالماً فقد أدرك بواسطة لاوعيه المكتسب من تجارب وعيه الموروث أن القليل من الخيال في الاتجاه الصحيح أمرٌ لا غنى عنه ومكملٌ لثلاثية النعيم: الماء والخضرة والوجه الحسن ...
حي هو ولا يشكّ في ذلك وكعادة الواثقين تراه غير مكترثٍ بشأن ما يخبئه من مشاعر المكابرة والعناد في بطانة ابتسامته الباهتة ...
وكأنه نسي فعلاً قدرته على التعبير وبشكل حقيقي ومذهل عن مكنونات نفسه، ومعرفة أن واقعه ليس أكثر من مواجهة بين خيارين: إما أمل وفكرة صادقة وهدف محتمل.
أو استسلام لظلال مزاجية يستقر على كفتها حظٌ سيء واحتقار نفس ...
لكنه حرّ ...
له خياله المزدحم بالأنماط المكررة البائسة، بالنميمة،والإشاعات والأكاذيب ...
وله أيضا ما يبرر ضعف إيمانه بكل ما تقوله أبراج الحظ..
وله من ميزاته الذاتية ما يفسر به إهماله لموهبة لملمة تلك الخطوط الفوضوية لفناجين قهوته الصباحية...
حياته ليست كلها خطأ وليست كلها صواب إلا أنه حي بمظهرٍ كامل ويشعر بأهمية الاعتراف بمركزية الشمس كل صباح كغيره من الكائنات التي تجيد مهارة التمثيل الضوئي وإن كان يتميز عنها بالتأمل الطويل العميق الذي جعله يرتاب أكثر في كل هذا الإطراء والمديح الذي تختال به نفسه يومياً لكن بالطبع دون التغلغل في مدى توافقه مع مصادر ذاته الأصلية...
فهو أبدا لا يحكم على نفسه... ولا يفكر بحياة تهدف إلى شكل أرقى من أشكالها ...ولا يعتقد بالحنين إلى خلود أزلي ..فيا له من متواضع!!
وله تفكيره الناقد، وأسلوبه الخاص الذي يستولي على ذهنه بصيغة متعادلة خالصة ..
حين يطيل التحديق بعيون مقعرة ترتشف ما تبقى له من معالم واضحة وجادة على مرآته...
أو أن يقتبس بتركيز وعمق شديدين من الشيب الذي يلف رأسه بدبلوماسية آخاذه سؤالا ميتافيزيقاً حول صيرورة الوعي يُجَسد به ما تبقى من فكر مقاومة خربشات الجدران لتجاعيد البيروقراطية...
حي هو ويدرك جيداً سرَ طغيان علامات الإستفهام على معظم ما قد يصل إليه من حلول واجابات...
ويعلم بأنه أمامها مقهور وضعيف الإرادة ومضطر إلى العيش في ذاتين منفصلتين الأولى ليجامل بها ما اتفق عليه عامة الناس من تقاليع الوجود حين يفقدون الرؤية والسيطرة ...
والثانية للعودة من حيث أتى... إلى قابلية حدائق روحه السرية على الأخد والعطاء مع أي شيء ذي قيمة ومعنى ....
نعم هو حي ولا يملّ الإستماع للإنذارات التي ترسلها رايات القلق الراسخ في أعماق نفسه قبل ان يبتلع بغُصّة حبة دواء أخبره الطبيب أنها ستثأر له من كل متطفل يظن للحظه أنه قادر على اختراق حصون جسده ... لكنه وكعادة الخائفين جداً بالغ في وساوس الحذر، فأغلق النوافذ والأبواب جيدا ، واغتال بتوحش كل نسمة عابرة خشية أن تكون محمّلة بكائنات تبدو له في دقتها غير مرئية حتى كاد بالفعل أن يموت اختناقاً ..
حيّ هو و لا يخجل أبداً من سذاجة دهشته حين تزف له نشرات الأخبار بسرور بالغ نبأ امكانية وجود حياة على كوكب اكتشف حديثا!
كوكبٌ لا ينتمي إلى مجموعتنا الغبارية التي باتت تعاني من صعوبات في التنفس وارتباك بعد ابتلاع تلك الكميات الهائلة من هوائنا الغبي المكتظ بفنون الإقصاء وأخبار المجازر والحروب والقتال ...
حيّ هو ؟ هكذا يعتقد حتى وإن لم يستيقظ من كآبته ويوازن بين أحلامه وحق من هم خارج أسوار الأمنيات... باقياً على حاله حرفاً ساكناً في اشكالية التناقض لعالمه ووجهه الآخر الذي يشبه ليل غابة استوائية ...
حي هو؟ هكذا يظن في حدسه رغم أنه لم يتجدد بعد بقوة خلاصية تنتزع من قلبه كل نبضة لم تصهر قوانين السماء في تحليقها الحرّ ....
تناقضات تختصر مظاهر الحياة على طريقتها تتجاذب وتتنافر أقطابها بلا توقف حتى تعطي لحركتها فعالية ما...
لكنها لا تجامل الوعي أبدا في نتائجها وبناء على ذلك تتحقق نتائج معادلات الوجود في الوعي "الإستاتيكي" للعقول بإضافة أو إِنْقاص ساعتين على المعدل الطبيعي للنوم .
بينما يعمل الوعي "الديناميكي" للحرة منها على تحويل ليلها إلى نهار لتتمكن من النوم بسلام!
هو حي إذن ؟ ربما
لكنه على الأغلب لن يفعل شيئاً لمواجهة تناقضاته وخوفه وقلقه سوى أن يترك مصابيح البيت مضاءه طيلة الليل !!!!

الجمعة، 15 يوليو 2016

بين ذاتية الماضي وموضوعية التاريخ


هل نبالغ لو قلنا أن محاولات الإنسان الأولى على بساطتها ومحدوديتها في مواجهة تحديات الطبيعة كانت هي أساس التقدم ... أم أن هناك دافع خفي كان يجذب الإنسان إلى جوهر الأشياء والظواهر من حوله وكأن لها سلطة مطلقة لا تنفك تعطي الأمر للعقل بالتحرك والبحث عنها وسط هذا العدد الهائل من المتغيرات والتحولات؟؟ 
ومع تنامي الوعي البشري واتساع آفاقه فيما بعد هل كانت سطوة ما تم اعتباره قديماً من الثوابت والقواعد والمسلمات هي السبب في خروج العقل عنها والبحث عن طرق جديدة لإثبات حريته واستقلاليته وبرهان وجوده؟؟ رغم الإعتراف بأن القضايا التي أثارت تلك التساؤلات لا تقبل الحسم لكنها بلا شك كانت فكرة التقدم والتطور التي أشعلت وعي الإنسان، وحملت ثقل امتداد المعنى لصرخة ضميره الذي لا يهدأ حين أدرك أنه لا سبيل للتقدم إلا بالبحث... 
ولا وسيلة للفكر في ادراك حقيقة الأشياء واثبات خصائصها إلا باخضاعها لآليات بحث تناسبها .. 
فإذا كنا نرى الوجود مكتوب بلغة رياضية وهي القياس لكل شيء فهذا يعني أن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحقيقة واليقين .. 
أما إذا كانت ظروف المعرفة ضبابية ومعتمة وتعج بالتناقضات فلا بد من فكر مستقل يمعن النظر بتعمق في معنى وجدوى المبدأ والوسيلة والهدف. 
لكن ماذا عن علم الحياة والحركة"علم التاريخ" العلم الحيّ النابض بسنن التقدم والتغيير حيث الإنتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، وما يقترن بهذا الإنتقال من خوف وتوجس ورغبة قوية تتملكنا وتجعلنا حريصين كل الحرص على أن يكون التغير والتبدل ظاهرياً دون المساس بالجوهر. فترانا نتساءل متأملين بإنصاف أهمية هذا العلم عن دور العاطفة في بناء المعرفة التاريخية ؟ 
وهل يمكن فعلاً أن نكتب ونقرأ التَاريخ بموضوعية بلا تحيّز ودون أن يساور الباحث أو القارئ شعور الحُبْ أو الكَراهية ؟ 
هل نحن على استعداد إذَنْ لأن نواجه تساؤلاتنا فعندما يلتقي أي موضوع بالعاطفة لا مفر من السير في دروب بحث شائكة ووعرة وبكل تأكيد ستزداد الأمور تعقيداً وتداخلاً في حضرة وعي مرتبك غير قادر على تنظيم العلاقات بين الأفكار والأشخاص وبين الذات والموضوع.. 
لذا أرى أنه من الضروري تحديد تصوراتنا على مساحة بيضاء مسالمة ومحايدة في أذهاننا نطرح فيها كل ما يخطر ببالنا من تساؤلات وأفكار دون أن تقلقنا مسألة الحرص على أن يكون ما نبحث عنه ملائما لأفكارنا السابقة أو الرأي السائد المفروض علينا أو حتى أن نكون في موقف دفاع حتى نتمكن من تناول الفكرة من جذورها فتتضح معالم الصورة الكلية لها ... 
نعلم بأن التاريخ هو علم يدرس أحداث الماضي ويبحث في القوانين والعوامل التي توجه حركة التاريخ وعوامل نشوء الحضارات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والعلمية التي رافقتها وأسباب انهيارها واضمحلال قوتها وهو خاضع للنقد والمقارنة والتحليل والتأويل والتعديل . 
لكن ما سر هذا الخيط الرقيق الذي يربط بين التاريخ والعاطفة حتى وإن لم نكن بصدد عقد محاكمة أخلاقية للوقائع والأحداث التاريخية ؟ 
أعتقد أن السبب يرجع إلى الأساليب البدائية التي كان يدون بها التاريخ وتفسر بها الظواهر حيث امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافة، واصطبغ الواقع بشاعرية الخيال وذلك لإضفاء المزيد من الجاذبية والعذوبة والتشويق على القصة التاريخية حيث أنها كانت بالدرجة الأولى شأنها شأن أي فن أدبي تهدف إلى مخاطبة العاطفة واستعراض جمال اللغة والصورة وهذا بالطبع كان على حساب المضمون والحقائق التاريخية ..
 إن التاريخ لم يصبح علماً إلا عندما تناوله العقل بالنقد والتحليل والمقارنة ...
هنا وكنتيجة لتلك الخطوة الفارقة حدث أمر مهم بالنسبة لنظرة الإنسان للتاريخ إذ لم يعد علم دراسة الأحداث الماضية وأحوال الأمم السابقة فقط بل توسع هذا المفهوم بحيث أصبحت المادة التاريخية أداة لفهم وقراءة الحاضر من منطلق أن الحاضر ليس الا نتاج سياسات الماضي بل والتنبؤ بالمستقبل من خلال الإلمام بمعطيات الحاضر وتفاصيله .وهذا يعني انتهاء عصر القراءة الرومانسية للتاريخ والذي كان يروى كقصة أو حكاية بهدف التسلية والإمتاع وحفظ ملامح أبطال وشخوص تلك القصص في عملية تحنيط تضمن لهم خلود سيرتهم وانجازاتهم في ذاكرة الناس.. 
لكن هذه النظرة العقلانية للتاريخ لم تمنع البعض من توظيفه لغايات إضفاء الهيبة والعظمة التاريخية على قرارتهم أو بتعبير آخر كانت طريقة لــ "عقلنة" أحداث الحاضر باجترار سلوكيات قام بها الأجداد في مناسبات مشابهة لكن على قاعدة أن البشر يفكرون بطريقة ويتصرفون بطريقة أخرى فالناس و على الرغم مما يظهر عليهم من مظاهر التقدم والتطور إلا أنهم في الغالب يستأنسون بالماضي ويرون فيه ينبوعا لا ينضب من الضمانات والتبريرات والتفسيرات لما يحملونه من مشاعر وأفكار بل قد يقودهم هذا التشبث الأعمى بالماضي بدلا من محاولة التكيف مع التغييرات والتطورات التي يفرضها التقدم إلى تقديس وتبجيل أشكال من السلوكيات انتهت صلاحيتها بكل المقاييس وفقدت قيمتها النفعية. 
برأيي هذا أمر غير صحي وباعث على التناقض والاضطراب فنحن فكرياً لا نرث زمناً أو أحداثاً تاريخية بل نرث ثقافة وهي فكر وروح الحضارة. 
أما الحضارة فهي ثمرة المعرفة والثقافة والتجربة . فالثقافة قد تكون وفق المنظور الحضاري والتاريخي "نقطة تلاشي" أو "الخلاصة " عل اعتبار أنها جزء من التاريخ وهو جزء منها فهي بحاجة لزمن لكي تتشكل وتتطور وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة . لكنها في تاريخ الحضارات تتميز بكونها هي الأساس الذي ينبثق عنه التحرك التاريخي. فهل يمكن أن تقوم حضارة في بيئة انعدمت فيها العلوم والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك مثلا! هل يمكننا تحقيق انجاز بلا معطيات علمية وثقافية! من هنا يمكن القول بأن وظيفة الثقافة الأساسية تتمثل في العمل على تنظيم وتهذيب سلوك الإنسان في صراعه من أجل البقاء لتجعله مواطناً صالحاً وعضواً نافعاً في مجتمعه ثم الإرتقاء به وبمظاهر حضارته المادية إلى مستويات أفضل .. وبناء على هذه الملاحظة نستطيع تمييز نوعين من الثقافة ثقافة جامدة ساكنة في تجاهل تام لحركة الزمن مكتفيه بالمستوى الحضاري الذي وصلت إليه مهما كان بسيطا ومتواضعا مقارنة بالحضارات الآخرى ... وثقافة محركة مرنة واعية لا تتآمر على ذاتها مدركة لتحديات العصر وهي بحركتها المستمرة تلك توجد لنفسها أسباب وعوامل بقائها واستمرارها. وهذا يعني أن الوعي الذي ينصف ذاته بثقافة قابلة للتجديد والتحديث يضمن استمرارية وجوده الحضاري مهما اختلفت ظروفه المكانية الزمانية... 
من المؤكد أن التاريخ في ترابط أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل يستمد معناه وقيمته من مستوى الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة التاريخية مما يعني أن محاولة احاطة التَاريخ ِالإنسَاني بِلَمحَة بصر أو بالبحث ِالعَشوَائي بينَ السّطور أمر لا يليق بدارس وباحث حقيقي بالتالي إذا لم يتسم البَحثُ التاريخي بالمَوْضوعية والتجرد فلا مَكانِ له ولا معنى بين العُلوم ويشمل ذلك حضور العاطفة أثناء صياغة وتحليل النص التاريخي فالحب والكراهية أمور نسبيه لا تعني شيئا في قاموس السياسة والتاريخ واعتمادها كأدوات قياس لفهم وتفسير الأحداث التاريخية التي تنتجها معادلة الزمن في عالم متغير هي علامة ضعف وخلل وارتباك.. لكننا قد نشك في امكانية تحقيق ذلك قائلين : أننا نطلب المستحيل حين نشترط اقصاء العاطفة تماما في تقييم الأحداث خصوصا أن الحالة العاطفية في كثير من الأحيان تكون خارجة عن سيطرة الإنسان وهو مزيج معقد من المشاعر والأحساسيس . 
ثم أن هناك الكثير من الأفعال التي يقوم بها البشر ذات منشأ عاطفي فكيف لنا أن نقيمها ونتعامل معها ونتفهمها بشكل صحيح دون النظر لها من منظور عاطفي ؟ 
إن المشكلة ليست بالتفاعل العاطفي بحد ذاته فكل ما يحدث حولنا يفرض علينا كل لحظة واقعا جديداً له تداعياته التي تؤثر فينا هذا أمر لا خيار لنا فيه لأننا بشر لنا ثقافاتنا ومعارفنا التي لم نكتسبها دفعة واحدة بل نتيجة تفاعل الوعي مع الأحداث خلال فترة طويلة من الزمن. 
هذا بالإضافة إلى أن البشر لا يأخذون مظاهر الحضارة بالقوة والقهر، بل بنسبه ما تلقى من قبول في نفوسهم ومدى ما تقدمه من فوائد تساهم في تطوير وتجديد معارفهم.. 
لكن موطن الخلل يكمن في عدم انسجام منطق العاطفة ومعيارها الذي يجيز التناقض ويتبع الرغبة مع طبيعة المعرفة التاريخية التي تقوم على دراسة الواقع كما هو وتناوله بالنقد والتحليل ..
 ذلك أن أهم الأسباب التي تقف وراء بحثنا عن المعلومة التاريخية ومطالبتنا بإماطة اللثام عن دوافع التغيير لكل مرحلة زمنية هي حاجتنا لرؤية مسؤولة تتسم بالشفافية والحياد ... 
لنضوج له شكل محدد يعالج تناقضاتنا ويقرب بين وجهات النظر المختلفة ويخضع أحكام العاطفة المتسرعة لسلطة العقل... 
كذلك يدخل في نفس الإطار لو قمنا مثلا بربط موضوع ينتمي لموجود متحرك وهو التاريخ الذي جوهره التغيير والإختلاف والتفرد أو عادات يمكن أن تنشأ تلقائيا عن الحياة اليومية لمجتمع ما بمفاهيم نحسب أن تصوراتنا عنها مطلقة, وثابتة كالخير والشر أو الصواب والخطأ،
 ثم تفسير وتقييم الواقع من خلالها متجاهلين تماما أن مضمون هذين المصطلحين أصلا قد تعرض للتغيير والتعديل في وعينا مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان. 
إن اعتماد هذا النمط من التفكير وفي كلتا الحالتين ليس إلا شكلاً من أشكال الوعي الزائف ولا أرى فيه إلا وسيلة تعبير عن ما يرضي الأهواء ويخدم المصلحة الخاصة ..
ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الصدامات بين وجهات نظر مناقضة للواقع ورؤية منحرفة حافلة بالنقائص مجيشة عاطفيا لا يمكن بواسطتها استخراج خصائص عالية التجريد توضح معالم الصورة الحقيقية للأشياء وتكشف عن القوانين الكلية التي تحكمها وتحولها من مرحلة إلى أخرى. 
وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ليست من مهام المؤرخ ولا من مهامنا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار فهذه قراءة غير عادلة تفتقر إلى الدقة والنزاهة خصوصاً لو كنا بصدد البحث عن الأسباب والغايات التي تقف وراء الأحداث التاريخية فما ينطبق على البعض ليس بالضرورة أن ينطبق على الكل وما هو خير أو شر في زمان ومكان محددين قد لا يكون خيرا أو شراً في زمان ومكان آخرين. 
إن ما يمكن اعتباره تصوراُ منطقياً وموضوعياً للخير والشر وصورة حضارية من صور رقابة الضمير على السلوك الانساني وعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى التعاطف والاجتماع والتعاون مع الآخرين و استجابة لحاجة الإنسان للحماية والشعور بالأمان ضمن جماعته التي ينتمي إليها هو حين عرف الإنسان من خلال فهمه ووعيه لهذين المصطلحين الخير والشر ماهية الحق والواجب واشتق تشريعاته وقوانينه لغايات تنظيم حياته في كافة المجالات . 
وما ينطبق على علاقة الفرد مع مجتمعه أو دولته ينطبق أيضا على الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.. 
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلغي أو نتجاهل أهمية القيم الأخلاقية ودورها حتى لو كانت على أرض الواقع غير قادرة على مجاراة القوة التي جعلت الإقتصاد والتسلح العسكري هي مجالات التنافس والصراع بين الدول.. 
والآن هل هناك ما هو أكثر سوءاً وسذاجة من الإعتقاد بأن التاريخ مدينة يسكن المنتصرون في متونها بينما يكتفي المهزومون بالهوامش ؟ 
الحق أن عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا أرى فيها أكثر من وجهة نظر مهمة قيلت في ظروف سياسية معينة تناسبها أمّا السذاجة الحقيقية كانت في انتشارها كمفهوم للتاريخ واعتبارها قاعدة من قواعد المعرفة التاريخية. فما جاء به التاريخ لا يختلف عن واقع عالمنا المعاصر الذي تحكمه وتحركه المصالح ولا يخالف قانون الزمن الذي لم يستثنِ أمةً أو مجتمع من حركة التغيير تلك ولم تسلم بفضله فئة من خوض صراعها الحضاري في سبيل تحقيق ذاتها... 
ولا ننسى أنه وفي الجهة المقابلة من التاريخ هناك جانب مشرق قائم على الحلول الوسط .... جانب أكثر سلاماً وهدوءاً يؤكد لنا التاريخ فيه أن الحضارات تتلاقح وتتكامل فلا حدود فيها للكفاية فيما تقدمه للإنسان من وسائل الرقي والتطور والتفاهم والأمان والاستقرار والسلام . 
في النهاية تبقى مسؤولية المؤرخ مسؤولية أخلاقية فهو الضمير الذي تستند إليه البشرية للوصول إلى الحقيقة والهدف ليس اثارة المشاعر وشحن النفوس بل مخاطبة العقل وتحفيزه برؤية متكاملة للتاريخ بكل ما يحتويه من قيم ثقافية وجمالية تشجع الناس على تقبل الآخر واستيعاب تطورات العصر والانسجام معها بأقل عدد ممكن من الأخطاء والخسائر، أي أن يقدم لنا من مستودع الخبرة البشرية ما يثبت أن الكلَّ في دائرة الزمن تاريخ...

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...