الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟


ما معنى أن تكون إنساناً طيباً أو بسيطاً ؟
لو قلت أن البساطة التى تعني العفوية والوضوح وسلامة النية والابتعاد قدر الإمكان عن التعقيد والتمويه و التكلف والتصنع هي سر من أسرار العبقرية فالاغلب أني على صواب.
ذلك أن الإنسان الذي يدرك البساطة التي كانت عليها الأشياء في بداياتها يستطيع قراءة النهايات وسيكون حينها قادراً على حل العقدة دون أن يقطعها ...
الإنسان البسيط بفطرته النقية يستسهل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ولا يتعكر مزاجه البسيط وذائقته الشفافة من غليان علاقاتها المتشابكة حوله وهو بالتالي لن يعاني خللاً في ادراكها ولا ارتباكاً في ادارة معطياتها ...
البساطة هي القاعدة الأولى والأهم من قواعد اللياقة العقلية والنفسية في الحياة تبدأ من الاكتشاف والخلق والإبداع إلى تحديد نمط العيش وصولا إلى طرق نقل الأفكار والتعاطي معها والتأقلم مع نتائجها...
كل فكرة تحلت بالبساطة أثبتت نفسها وصمدت لقربها من أصل تفكيرنا ومعتقداتنا وأحلامنا وحتى خيالاتنا ....
البساطة تحمينا من أن نكون تحت رحمة ظروف قد تدفعنا إلى أوهام التناقضات عندما نكون بعيدين كل البعد عن حقيقة ما نحمله في أعماقنا رغم زعمنا بأن الأولوية دائما هي لتاكيداتنا وحساباتنا التي قد تكون في كثير من الأحيان مسيئة وجارحة لصفاء سلامنا الداخلي ..
البساطة صفة فريدة بمنطقها الذي يدخل القلب والعقل بلا استئذان فهي ثمرة الوعي التام المكتمل حيث تعبر عن نفسها بالحفاظ على مسافات ثابتة حيادية في صراع الأضداد لتعطي للعلاقات بين الاختلافات أجواء تنافسية جاذبة ...
وهي رغم تنوع أدوارها إلا أنها دائما ما تبدع في تفسير وتنظيم وترتيب كل شيء بتجرد ونزاهة...
في القانون هي النظام ...
في السياسة هي قرار الإرادة الحرة الواعية ...
في العلوم هي المبدأ الذي تستند علي حكمته وغايته النبيلة النظرية...
في الفنون هي الإبداع ...
في السلوك هي الإعتدال ... في القول هي الصدق ...
في الحب هي حضارة قلب ولغة شعور....
البساطة ببساطة هي موسيقى الفكر الأنيق المهذب المتعلم... وعنوان الوجود المتحضر...
ملاحظة :
إذا لم تكن من أنصار البساطة أو كنت ممن يرون في التعقيد والتجارة بالمظاهر قوة ونوعا من أنواع الذكاء والدهاء فأرجو أن يساعدك ذكاؤك في هذا الشأن فلا تكن كقاطع طريق على دروبها وبالتالي عدم استغلالها ومحاولة انتزاعها او اجتثاثها حسب اعتقادك من نفوس الآخرين..
فالبقاء يا أيها الناس للأجمل أي للأكثر بساطة ..

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

الأمل...فريدريش فون شيلر




يتكلم الناس ويحلمون كثيراً بأيام أفضل في المستقبل ..

حتى وهم يرون الهدف الذهبي يتجاوزهم مبتعداً 
قد يصبح العالم هزيلاً وهرماً لكنه سيعود مرة اخرى نضراً فتياً 
لذلك يتمنى الانسان الأفضل دائماً..

وفي أعماقه أمل يقوده إلى الحياة..
أملُ... يفتن عقل الفتى المرح حين يحلق حوله بأجنحته السحرية ...
ولا يفنى مع الشيخ الذى أنهى مسيرته الشاقة في القبر فهو لا زال هناك يغرس نفسه وينبت كالأمل ...
الأمل ليس كذبة أو وهماً مخادعاً في أدمغة الحمقى...
هو صوتٌ قوي يعلن في القلب أننا ولدنا لنكون أفضل ...
وما ينطق به الصوت الداخلي في الأعماق لا تُضله النفس المسكونة بالأمل..
___________
فريدريش فون شيلر شاعر وكاتب كلاسيكي ألماني (1759-18055)

الأحد، 31 يوليو 2016

تنــاقضــات...

هو حي...
بطريقة ما يشعر بأنه حيّ، و لا زال يلفت النظر إليه كل يوم بغيبوبة مفتعلة ينهي بها تأرجح صراعه الطفولي مع أولئك الطامحين مثله في الحصول على حلمٍ ترتديه وسائدهم الناعمة خلال الليل ...
وكم يحب التعثر بالصدى والمسافات، وأن يتعرض ككل كائن يتفاعل لإغواء السراب، ويسعده كثيراً أن يكون انعكاساً بشرياً للون الغالب في خرائط الجغرافيا!
حي هو ... وبنتيجة حيادية مصقولة ببعض الحظ يؤكد لنفسه ذلك... إذ أنه لم يكن غنيمة حرب عبثية ، ولا فريسة لأوامر ذائقة قد تقف بينه وبين حريته فأصبحت تلك الحياة قيمته التي ولدت من جديد ...
حي هو ...عمليّ وعصريّ ... لم ينتظر كرم البخلاء ورعشة أيديهم حين تتشابك أمامه بحرص كما تفعل تجارب الأيام في مواسم القحط واللؤم والبلاء ... بل عرف كيف يعيش على هامش طريقة تفتقد لجزالة فن الحب وابداعاته... مع اقراره بأهمية أن يكون في الوقت والسلوك نفسه رومانسياً وحالماً فقد أدرك بواسطة لاوعيه المكتسب من تجارب وعيه الموروث أن القليل من الخيال في الاتجاه الصحيح أمرٌ لا غنى عنه ومكملٌ لثلاثية النعيم: الماء والخضرة والوجه الحسن ...
حي هو ولا يشكّ في ذلك وكعادة الواثقين تراه غير مكترثٍ بشأن ما يخبئه من مشاعر المكابرة والعناد في بطانة ابتسامته الباهتة ...
وكأنه نسي فعلاً قدرته على التعبير وبشكل حقيقي ومذهل عن مكنونات نفسه، ومعرفة أن واقعه ليس أكثر من مواجهة بين خيارين: إما أمل وفكرة صادقة وهدف محتمل.
أو استسلام لظلال مزاجية يستقر على كفتها حظٌ سيء واحتقار نفس ...
لكنه حرّ ...
له خياله المزدحم بالأنماط المكررة البائسة، بالنميمة،والإشاعات والأكاذيب ...
وله أيضا ما يبرر ضعف إيمانه بكل ما تقوله أبراج الحظ..
وله من ميزاته الذاتية ما يفسر به إهماله لموهبة لملمة تلك الخطوط الفوضوية لفناجين قهوته الصباحية...
حياته ليست كلها خطأ وليست كلها صواب إلا أنه حي بمظهرٍ كامل ويشعر بأهمية الاعتراف بمركزية الشمس كل صباح كغيره من الكائنات التي تجيد مهارة التمثيل الضوئي وإن كان يتميز عنها بالتأمل الطويل العميق الذي جعله يرتاب أكثر في كل هذا الإطراء والمديح الذي تختال به نفسه يومياً لكن بالطبع دون التغلغل في مدى توافقه مع مصادر ذاته الأصلية...
فهو أبدا لا يحكم على نفسه... ولا يفكر بحياة تهدف إلى شكل أرقى من أشكالها ...ولا يعتقد بالحنين إلى خلود أزلي ..فيا له من متواضع!!
وله تفكيره الناقد، وأسلوبه الخاص الذي يستولي على ذهنه بصيغة متعادلة خالصة ..
حين يطيل التحديق بعيون مقعرة ترتشف ما تبقى له من معالم واضحة وجادة على مرآته...
أو أن يقتبس بتركيز وعمق شديدين من الشيب الذي يلف رأسه بدبلوماسية آخاذه سؤالا ميتافيزيقاً حول صيرورة الوعي يُجَسد به ما تبقى من فكر مقاومة خربشات الجدران لتجاعيد البيروقراطية...
حي هو ويدرك جيداً سرَ طغيان علامات الإستفهام على معظم ما قد يصل إليه من حلول واجابات...
ويعلم بأنه أمامها مقهور وضعيف الإرادة ومضطر إلى العيش في ذاتين منفصلتين الأولى ليجامل بها ما اتفق عليه عامة الناس من تقاليع الوجود حين يفقدون الرؤية والسيطرة ...
والثانية للعودة من حيث أتى... إلى قابلية حدائق روحه السرية على الأخد والعطاء مع أي شيء ذي قيمة ومعنى ....
نعم هو حي ولا يملّ الإستماع للإنذارات التي ترسلها رايات القلق الراسخ في أعماق نفسه قبل ان يبتلع بغُصّة حبة دواء أخبره الطبيب أنها ستثأر له من كل متطفل يظن للحظه أنه قادر على اختراق حصون جسده ... لكنه وكعادة الخائفين جداً بالغ في وساوس الحذر، فأغلق النوافذ والأبواب جيدا ، واغتال بتوحش كل نسمة عابرة خشية أن تكون محمّلة بكائنات تبدو له في دقتها غير مرئية حتى كاد بالفعل أن يموت اختناقاً ..
حيّ هو و لا يخجل أبداً من سذاجة دهشته حين تزف له نشرات الأخبار بسرور بالغ نبأ امكانية وجود حياة على كوكب اكتشف حديثا!
كوكبٌ لا ينتمي إلى مجموعتنا الغبارية التي باتت تعاني من صعوبات في التنفس وارتباك بعد ابتلاع تلك الكميات الهائلة من هوائنا الغبي المكتظ بفنون الإقصاء وأخبار المجازر والحروب والقتال ...
حيّ هو ؟ هكذا يعتقد حتى وإن لم يستيقظ من كآبته ويوازن بين أحلامه وحق من هم خارج أسوار الأمنيات... باقياً على حاله حرفاً ساكناً في اشكالية التناقض لعالمه ووجهه الآخر الذي يشبه ليل غابة استوائية ...
حي هو؟ هكذا يظن في حدسه رغم أنه لم يتجدد بعد بقوة خلاصية تنتزع من قلبه كل نبضة لم تصهر قوانين السماء في تحليقها الحرّ ....
تناقضات تختصر مظاهر الحياة على طريقتها تتجاذب وتتنافر أقطابها بلا توقف حتى تعطي لحركتها فعالية ما...
لكنها لا تجامل الوعي أبدا في نتائجها وبناء على ذلك تتحقق نتائج معادلات الوجود في الوعي "الإستاتيكي" للعقول بإضافة أو إِنْقاص ساعتين على المعدل الطبيعي للنوم .
بينما يعمل الوعي "الديناميكي" للحرة منها على تحويل ليلها إلى نهار لتتمكن من النوم بسلام!
هو حي إذن ؟ ربما
لكنه على الأغلب لن يفعل شيئاً لمواجهة تناقضاته وخوفه وقلقه سوى أن يترك مصابيح البيت مضاءه طيلة الليل !!!!

الجمعة، 15 يوليو 2016

بين ذاتية الماضي وموضوعية التاريخ


هل نبالغ لو قلنا أن محاولات الإنسان الأولى على بساطتها ومحدوديتها في مواجهة تحديات الطبيعة كانت هي أساس التقدم ... أم أن هناك دافع خفي كان يجذب الإنسان إلى جوهر الأشياء والظواهر من حوله وكأن لها سلطة مطلقة لا تنفك تعطي الأمر للعقل بالتحرك والبحث عنها وسط هذا العدد الهائل من المتغيرات والتحولات؟؟ 
ومع تنامي الوعي البشري واتساع آفاقه فيما بعد هل كانت سطوة ما تم اعتباره قديماً من الثوابت والقواعد والمسلمات هي السبب في خروج العقل عنها والبحث عن طرق جديدة لإثبات حريته واستقلاليته وبرهان وجوده؟؟ رغم الإعتراف بأن القضايا التي أثارت تلك التساؤلات لا تقبل الحسم لكنها بلا شك كانت فكرة التقدم والتطور التي أشعلت وعي الإنسان، وحملت ثقل امتداد المعنى لصرخة ضميره الذي لا يهدأ حين أدرك أنه لا سبيل للتقدم إلا بالبحث... 
ولا وسيلة للفكر في ادراك حقيقة الأشياء واثبات خصائصها إلا باخضاعها لآليات بحث تناسبها .. 
فإذا كنا نرى الوجود مكتوب بلغة رياضية وهي القياس لكل شيء فهذا يعني أن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحقيقة واليقين .. 
أما إذا كانت ظروف المعرفة ضبابية ومعتمة وتعج بالتناقضات فلا بد من فكر مستقل يمعن النظر بتعمق في معنى وجدوى المبدأ والوسيلة والهدف. 
لكن ماذا عن علم الحياة والحركة"علم التاريخ" العلم الحيّ النابض بسنن التقدم والتغيير حيث الإنتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، وما يقترن بهذا الإنتقال من خوف وتوجس ورغبة قوية تتملكنا وتجعلنا حريصين كل الحرص على أن يكون التغير والتبدل ظاهرياً دون المساس بالجوهر. فترانا نتساءل متأملين بإنصاف أهمية هذا العلم عن دور العاطفة في بناء المعرفة التاريخية ؟ 
وهل يمكن فعلاً أن نكتب ونقرأ التَاريخ بموضوعية بلا تحيّز ودون أن يساور الباحث أو القارئ شعور الحُبْ أو الكَراهية ؟ 
هل نحن على استعداد إذَنْ لأن نواجه تساؤلاتنا فعندما يلتقي أي موضوع بالعاطفة لا مفر من السير في دروب بحث شائكة ووعرة وبكل تأكيد ستزداد الأمور تعقيداً وتداخلاً في حضرة وعي مرتبك غير قادر على تنظيم العلاقات بين الأفكار والأشخاص وبين الذات والموضوع.. 
لذا أرى أنه من الضروري تحديد تصوراتنا على مساحة بيضاء مسالمة ومحايدة في أذهاننا نطرح فيها كل ما يخطر ببالنا من تساؤلات وأفكار دون أن تقلقنا مسألة الحرص على أن يكون ما نبحث عنه ملائما لأفكارنا السابقة أو الرأي السائد المفروض علينا أو حتى أن نكون في موقف دفاع حتى نتمكن من تناول الفكرة من جذورها فتتضح معالم الصورة الكلية لها ... 
نعلم بأن التاريخ هو علم يدرس أحداث الماضي ويبحث في القوانين والعوامل التي توجه حركة التاريخ وعوامل نشوء الحضارات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والعلمية التي رافقتها وأسباب انهيارها واضمحلال قوتها وهو خاضع للنقد والمقارنة والتحليل والتأويل والتعديل . 
لكن ما سر هذا الخيط الرقيق الذي يربط بين التاريخ والعاطفة حتى وإن لم نكن بصدد عقد محاكمة أخلاقية للوقائع والأحداث التاريخية ؟ 
أعتقد أن السبب يرجع إلى الأساليب البدائية التي كان يدون بها التاريخ وتفسر بها الظواهر حيث امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافة، واصطبغ الواقع بشاعرية الخيال وذلك لإضفاء المزيد من الجاذبية والعذوبة والتشويق على القصة التاريخية حيث أنها كانت بالدرجة الأولى شأنها شأن أي فن أدبي تهدف إلى مخاطبة العاطفة واستعراض جمال اللغة والصورة وهذا بالطبع كان على حساب المضمون والحقائق التاريخية ..
 إن التاريخ لم يصبح علماً إلا عندما تناوله العقل بالنقد والتحليل والمقارنة ...
هنا وكنتيجة لتلك الخطوة الفارقة حدث أمر مهم بالنسبة لنظرة الإنسان للتاريخ إذ لم يعد علم دراسة الأحداث الماضية وأحوال الأمم السابقة فقط بل توسع هذا المفهوم بحيث أصبحت المادة التاريخية أداة لفهم وقراءة الحاضر من منطلق أن الحاضر ليس الا نتاج سياسات الماضي بل والتنبؤ بالمستقبل من خلال الإلمام بمعطيات الحاضر وتفاصيله .وهذا يعني انتهاء عصر القراءة الرومانسية للتاريخ والذي كان يروى كقصة أو حكاية بهدف التسلية والإمتاع وحفظ ملامح أبطال وشخوص تلك القصص في عملية تحنيط تضمن لهم خلود سيرتهم وانجازاتهم في ذاكرة الناس.. 
لكن هذه النظرة العقلانية للتاريخ لم تمنع البعض من توظيفه لغايات إضفاء الهيبة والعظمة التاريخية على قرارتهم أو بتعبير آخر كانت طريقة لــ "عقلنة" أحداث الحاضر باجترار سلوكيات قام بها الأجداد في مناسبات مشابهة لكن على قاعدة أن البشر يفكرون بطريقة ويتصرفون بطريقة أخرى فالناس و على الرغم مما يظهر عليهم من مظاهر التقدم والتطور إلا أنهم في الغالب يستأنسون بالماضي ويرون فيه ينبوعا لا ينضب من الضمانات والتبريرات والتفسيرات لما يحملونه من مشاعر وأفكار بل قد يقودهم هذا التشبث الأعمى بالماضي بدلا من محاولة التكيف مع التغييرات والتطورات التي يفرضها التقدم إلى تقديس وتبجيل أشكال من السلوكيات انتهت صلاحيتها بكل المقاييس وفقدت قيمتها النفعية. 
برأيي هذا أمر غير صحي وباعث على التناقض والاضطراب فنحن فكرياً لا نرث زمناً أو أحداثاً تاريخية بل نرث ثقافة وهي فكر وروح الحضارة. 
أما الحضارة فهي ثمرة المعرفة والثقافة والتجربة . فالثقافة قد تكون وفق المنظور الحضاري والتاريخي "نقطة تلاشي" أو "الخلاصة " عل اعتبار أنها جزء من التاريخ وهو جزء منها فهي بحاجة لزمن لكي تتشكل وتتطور وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة . لكنها في تاريخ الحضارات تتميز بكونها هي الأساس الذي ينبثق عنه التحرك التاريخي. فهل يمكن أن تقوم حضارة في بيئة انعدمت فيها العلوم والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك مثلا! هل يمكننا تحقيق انجاز بلا معطيات علمية وثقافية! من هنا يمكن القول بأن وظيفة الثقافة الأساسية تتمثل في العمل على تنظيم وتهذيب سلوك الإنسان في صراعه من أجل البقاء لتجعله مواطناً صالحاً وعضواً نافعاً في مجتمعه ثم الإرتقاء به وبمظاهر حضارته المادية إلى مستويات أفضل .. وبناء على هذه الملاحظة نستطيع تمييز نوعين من الثقافة ثقافة جامدة ساكنة في تجاهل تام لحركة الزمن مكتفيه بالمستوى الحضاري الذي وصلت إليه مهما كان بسيطا ومتواضعا مقارنة بالحضارات الآخرى ... وثقافة محركة مرنة واعية لا تتآمر على ذاتها مدركة لتحديات العصر وهي بحركتها المستمرة تلك توجد لنفسها أسباب وعوامل بقائها واستمرارها. وهذا يعني أن الوعي الذي ينصف ذاته بثقافة قابلة للتجديد والتحديث يضمن استمرارية وجوده الحضاري مهما اختلفت ظروفه المكانية الزمانية... 
من المؤكد أن التاريخ في ترابط أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل يستمد معناه وقيمته من مستوى الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة التاريخية مما يعني أن محاولة احاطة التَاريخ ِالإنسَاني بِلَمحَة بصر أو بالبحث ِالعَشوَائي بينَ السّطور أمر لا يليق بدارس وباحث حقيقي بالتالي إذا لم يتسم البَحثُ التاريخي بالمَوْضوعية والتجرد فلا مَكانِ له ولا معنى بين العُلوم ويشمل ذلك حضور العاطفة أثناء صياغة وتحليل النص التاريخي فالحب والكراهية أمور نسبيه لا تعني شيئا في قاموس السياسة والتاريخ واعتمادها كأدوات قياس لفهم وتفسير الأحداث التاريخية التي تنتجها معادلة الزمن في عالم متغير هي علامة ضعف وخلل وارتباك.. لكننا قد نشك في امكانية تحقيق ذلك قائلين : أننا نطلب المستحيل حين نشترط اقصاء العاطفة تماما في تقييم الأحداث خصوصا أن الحالة العاطفية في كثير من الأحيان تكون خارجة عن سيطرة الإنسان وهو مزيج معقد من المشاعر والأحساسيس . 
ثم أن هناك الكثير من الأفعال التي يقوم بها البشر ذات منشأ عاطفي فكيف لنا أن نقيمها ونتعامل معها ونتفهمها بشكل صحيح دون النظر لها من منظور عاطفي ؟ 
إن المشكلة ليست بالتفاعل العاطفي بحد ذاته فكل ما يحدث حولنا يفرض علينا كل لحظة واقعا جديداً له تداعياته التي تؤثر فينا هذا أمر لا خيار لنا فيه لأننا بشر لنا ثقافاتنا ومعارفنا التي لم نكتسبها دفعة واحدة بل نتيجة تفاعل الوعي مع الأحداث خلال فترة طويلة من الزمن. 
هذا بالإضافة إلى أن البشر لا يأخذون مظاهر الحضارة بالقوة والقهر، بل بنسبه ما تلقى من قبول في نفوسهم ومدى ما تقدمه من فوائد تساهم في تطوير وتجديد معارفهم.. 
لكن موطن الخلل يكمن في عدم انسجام منطق العاطفة ومعيارها الذي يجيز التناقض ويتبع الرغبة مع طبيعة المعرفة التاريخية التي تقوم على دراسة الواقع كما هو وتناوله بالنقد والتحليل ..
 ذلك أن أهم الأسباب التي تقف وراء بحثنا عن المعلومة التاريخية ومطالبتنا بإماطة اللثام عن دوافع التغيير لكل مرحلة زمنية هي حاجتنا لرؤية مسؤولة تتسم بالشفافية والحياد ... 
لنضوج له شكل محدد يعالج تناقضاتنا ويقرب بين وجهات النظر المختلفة ويخضع أحكام العاطفة المتسرعة لسلطة العقل... 
كذلك يدخل في نفس الإطار لو قمنا مثلا بربط موضوع ينتمي لموجود متحرك وهو التاريخ الذي جوهره التغيير والإختلاف والتفرد أو عادات يمكن أن تنشأ تلقائيا عن الحياة اليومية لمجتمع ما بمفاهيم نحسب أن تصوراتنا عنها مطلقة, وثابتة كالخير والشر أو الصواب والخطأ،
 ثم تفسير وتقييم الواقع من خلالها متجاهلين تماما أن مضمون هذين المصطلحين أصلا قد تعرض للتغيير والتعديل في وعينا مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان. 
إن اعتماد هذا النمط من التفكير وفي كلتا الحالتين ليس إلا شكلاً من أشكال الوعي الزائف ولا أرى فيه إلا وسيلة تعبير عن ما يرضي الأهواء ويخدم المصلحة الخاصة ..
ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الصدامات بين وجهات نظر مناقضة للواقع ورؤية منحرفة حافلة بالنقائص مجيشة عاطفيا لا يمكن بواسطتها استخراج خصائص عالية التجريد توضح معالم الصورة الحقيقية للأشياء وتكشف عن القوانين الكلية التي تحكمها وتحولها من مرحلة إلى أخرى. 
وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ليست من مهام المؤرخ ولا من مهامنا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار فهذه قراءة غير عادلة تفتقر إلى الدقة والنزاهة خصوصاً لو كنا بصدد البحث عن الأسباب والغايات التي تقف وراء الأحداث التاريخية فما ينطبق على البعض ليس بالضرورة أن ينطبق على الكل وما هو خير أو شر في زمان ومكان محددين قد لا يكون خيرا أو شراً في زمان ومكان آخرين. 
إن ما يمكن اعتباره تصوراُ منطقياً وموضوعياً للخير والشر وصورة حضارية من صور رقابة الضمير على السلوك الانساني وعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى التعاطف والاجتماع والتعاون مع الآخرين و استجابة لحاجة الإنسان للحماية والشعور بالأمان ضمن جماعته التي ينتمي إليها هو حين عرف الإنسان من خلال فهمه ووعيه لهذين المصطلحين الخير والشر ماهية الحق والواجب واشتق تشريعاته وقوانينه لغايات تنظيم حياته في كافة المجالات . 
وما ينطبق على علاقة الفرد مع مجتمعه أو دولته ينطبق أيضا على الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.. 
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلغي أو نتجاهل أهمية القيم الأخلاقية ودورها حتى لو كانت على أرض الواقع غير قادرة على مجاراة القوة التي جعلت الإقتصاد والتسلح العسكري هي مجالات التنافس والصراع بين الدول.. 
والآن هل هناك ما هو أكثر سوءاً وسذاجة من الإعتقاد بأن التاريخ مدينة يسكن المنتصرون في متونها بينما يكتفي المهزومون بالهوامش ؟ 
الحق أن عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا أرى فيها أكثر من وجهة نظر مهمة قيلت في ظروف سياسية معينة تناسبها أمّا السذاجة الحقيقية كانت في انتشارها كمفهوم للتاريخ واعتبارها قاعدة من قواعد المعرفة التاريخية. فما جاء به التاريخ لا يختلف عن واقع عالمنا المعاصر الذي تحكمه وتحركه المصالح ولا يخالف قانون الزمن الذي لم يستثنِ أمةً أو مجتمع من حركة التغيير تلك ولم تسلم بفضله فئة من خوض صراعها الحضاري في سبيل تحقيق ذاتها... 
ولا ننسى أنه وفي الجهة المقابلة من التاريخ هناك جانب مشرق قائم على الحلول الوسط .... جانب أكثر سلاماً وهدوءاً يؤكد لنا التاريخ فيه أن الحضارات تتلاقح وتتكامل فلا حدود فيها للكفاية فيما تقدمه للإنسان من وسائل الرقي والتطور والتفاهم والأمان والاستقرار والسلام . 
في النهاية تبقى مسؤولية المؤرخ مسؤولية أخلاقية فهو الضمير الذي تستند إليه البشرية للوصول إلى الحقيقة والهدف ليس اثارة المشاعر وشحن النفوس بل مخاطبة العقل وتحفيزه برؤية متكاملة للتاريخ بكل ما يحتويه من قيم ثقافية وجمالية تشجع الناس على تقبل الآخر واستيعاب تطورات العصر والانسجام معها بأقل عدد ممكن من الأخطاء والخسائر، أي أن يقدم لنا من مستودع الخبرة البشرية ما يثبت أن الكلَّ في دائرة الزمن تاريخ...

السبت، 21 مايو 2016

البتراء




البـــتــــراء


ما أجملها... 

حين يرتفع منها اللون منافساً عذوبة حمرة الأفق 

على جبين السماء..
حين تبوح بدلالات رموزها ...

 بسر صمودها وشموخها وصمت حزنها الأنيق ...
في أن تكون وردة مخفية في رحم مساحة حرة تحتضن أنماط الحياة ...

وواحة آمنة على طريق سفر طويل... 

البتراء... هي الصخرة التي لا تخون ...

هي النتيجة المنطقية لتواصل العاطفة مع الذاكرة

هي تسجيل الحوار الداخلي لزمن استعصى على النسيان...

هي حالة فريدة من السّلام والتفاهم والتناغم بين البشر والحجر.

 بين الروح والمادة. 

بين سطوة التاريخ ورقة الحضارة.

الثلاثاء، 17 مايو 2016

قراءة في محاورة جورجياس لأفلاطون البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية ...

كان فنّ الخطابة في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد هو السبيل الوحيد للوصول إلى مراتب ومراكز عليا في أثينا، سواء في مجالس الحكم والجمعيات أو مراكز النفوذ والسلطة. 
هذا بالإضافة إلى أنه كان وسيلة للثراء والكسب السريع نظراً لرواج مدارسه كنوع جديد وجذاب من التعليم العالي يحظى باحترام الجميع وتقديرهم ....  
(فن البيان) أو البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية 
هذا هو الموضوع الذي تتحدث عنه محاورة جورجياس التي كتبها أفلاطون في الفترة التي تقع بين ( 395 -390) ق.م. 
 ما هو البيان؟ وما الفائدة منه ؟ وهل هو حقاً فن الكذب الضار بالدول والأفراد ؟  
تلك هي الأفكار الني يناقشها أفلاطون في المحاورة. 
حيث يتقابل المذهب الفكري السقراطي القائم على أهمية حضور الخير والحق والعدل في حياة الإنسان ومدى أثرها على سلوكه ... 
مع فكر السفسطائيين وأتباعهم وطريقة توظيفهم الفوضوية للبيان لغايات تحقيق مآرب أو منافع شخصية واقناع الشعب واستغلال جهله بخطابات بعيدة كل البعد عن الحق والفضيلة والعدل والمصلحة العامة...  
اختار افلاطون أطراف الحوار بحيث تمثل تنوع الطباع في مجتمع أثينا فكانت الشخصية الرئيسية سقراط في مواجهة ثلاثة من السفسطائيين وهم جورجياس أستاذ البيان بقلبه المفتوح لإسئلة الجمهور والذي يعرف بخبرته كيف يجنب نفسه الوقوع في فخ التأكيدات لكنه واثق كل الثقة من أنه منذ أصبح خطيبا لم يوجه له أحد سؤالاً قد يكون مفاجأة له ....  
بولوس المتحمس لفكرته وحاله كحال جورجياس يعرف متى يتراجع عنها في حال استشعر ضعفها وتناقضها مع المبادئ والقيم. 
أما كالكليس فيختلف عن سابقيه باندفاعه وتسرعه لإثبات فكرته على حساب الأخلاق والقيم،وهو بطبعه هذا نراه ينهي النقاش مع سقراط غاضباً أكثر من مرة لكنه وبإلحاح من جورجياس يكمله على مضض مستمعاً فقط ومجيباً بمجاملات عقيمة تكشف اصراره على البقاء على طباعه وأفكاره متجاهلا كل ما يقوله سقراط !  
كان لسقراط أسلوبه المميز في ايصال رسالته أو ما يسمى بـ"الديالكتيك" وبواسطته يستعرض أفلاطون تلميذ سقراط الأكثر شهرة في مؤلفاته أفكاره ونظرياته فهو يبدأ بطرح الأسئلة على خصومه بحيث يختارها بطريقة تجعل خصمه يقع في التناقض حتى إذا ما وصل إلى هذه المرحله التي يؤكد فيها لخصمه بأنه لا يمتلك الحقيقة يعود سقراط لطرح الأسئلة من جديد لكن هذه المرة حول ماهية الموضوع بهدف البحث عن الحقيقة وللوصول إلى نتيجة أو إقرار. 
  ولأن البيان هو أفضل وأجمل الفنون جميعاً على حد قول بولوس. 
فقد رأى سقراط في هذا القول مدحاً لا اجابة على سؤاله ما هو البيان.  
فإذا كان البيان هو ذلك الفن الذي يحقق مهمته بالكلام وحده وقد اكتسب بهذه الصفة الأفضليه على غيره من الفنون فماذا سيقول كل من الطبيب والتاجر والفلكي والموسيقيّ وغيرهم عن فنه وهي متصلة أيضا بالبيان لكن لها جانب عملي يشترط فيه سقراط دائما أن تكون غاياته من أجل الخير والفضيلة ... 
 هذا التساؤل يدفع بجورجياس للقول بأن البيان هو عامل اقناع، ومهمته هي الإقناع وتحقيق السيادة في المجتمع، 
أي القدرة على اقناع القضاة في المحاكم والمواطنين في مجالسهم وتجمعاتهم، 
لأن البيان يضمن جميع القوى ويسيطر عليها، فالخطيب قادر على اقناع الناس بفكرته وله سلطة بأن يملي عليهم من يراه هو مناسبا من أصحاب المهن المختلفة وفي الانتخابات. 
لكن هذا لا يعني أن يتم استخدام البيان في أمر ينافي العدالة والإستقامة فهو كغيره من فنون القتال لا تستعمل بذات الطريقة مع الأصدقاء والأعداء.. هنا يتساءل سقراط أي نوع من الإقناع فكل أنواع العلوم عوامل إقناع ليس البيان وحده ! 
لذا لابد من التفريق بين العلم أو المعرفة والإعتقاد. 
فنقول مثلا هناك اعتقاد حق وآخر باطل لكن لا يمكن اطلاقاً أن نقول هناك علم باطل وعلم حق. 
وعلى هذا الأساس فإن البيان الذي يدعيه جورجياس هو عامل اقناع عقيدة وليس اقناع علم حيث أنه يُكسب المتلقي رأياً لا علماً ،فهو لا يحتاج إلى معرفة الحقائق حول الأشياء التي يتحدث عنها حسبه أن يجد طريقة يقنع بها الآخرين...
  أمّا القوة التي يُحَمِّلها بعض الخطباء للبيان وتجعل الخطيب متفوقا على أصحاب العلم أنفسهم فيخضع لها المتلقي الجاهل الذي لا يملك أي معرفة حول الموضوع المطروح.. 
هنا وفي نظر الجهلة فقط يكون الخطباء أكثر علماً من العلماء وأصحاب الاختصاص... 
 أما التناقض الصارخ الذي وقع فيه جورجياس ولم يكن صعباً على رجل مثل سقراط برع في مزج العلم بالعمل وكانت حياته تجسيداً عمليا لأفكاره الإمساك به. 
فجورجياس يفترض أن البيان لا يمكن أن يكون ظالماً، وهو فن ينشد العدالة دائما ويُعلِّمها، فكيف يقول فيما بعد بأن لا مسؤوليه على أستاذ البيان في حال لم يتصرف أحد تلامذته وفق العدالة. 
وهذا التناقض إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن البيان قد يستخدم استخداما ظالما !
 أليس من عرف العدالة وتعلَّمها سيتصرف وفقها؟؟؟  
يكمل سقراط تعريفه للبيان في محاورته الثانية مع بولوس، ونراه في هذا الجزء ينزع رداء المثالية عن البيان فيقول:
 بأنه لا يراه فناً على الإطلاق، فهو ليس أكثر من تجربة وممارسة وتدريب، شأنه شأن الطهي مثلاً، فكلاهما يهدفان إلى انتاج نوع خاص من اللذه والمتعة والسعادة. 
وهذه النقطة تحديدا هي ما دفعت سقراط إلى اعتبار البيان جزءً من التملق كما هو جزء من السياسة. 
فالخطيب لا يمانع من أن يضع على فكرته أي قناع، كشكل من أشكال الزينة للفوز بالاعتبار ورضا الناس واستحسانهم. 
وهذا سلوك لا يوافق مبادئ العدالة، ولا يحقق الخير وهو شيء رديء وضار...  
وبدوري أتساءل مع سقراط أي سعادة تلك التي سيحققها لنا هذا النوع من الخطاب حين يُحرَم الناس من قدرتهم على التمييز والتقدير وحقهم في الاختيار ؟؟؟ 
وكم يطيب لنا التأمل والتفكر والتعلم في اجابات سقراط على تساؤلات بولوس ... 
أليس للخطباء سلطان قوي في الدولة يقتلون وينفون من يشاؤون من الناس؟؟ 
ألا يكون الرجل الذي يمتلك تلك القوة جديراً بالحسد سواء فعل ذلك بعدل أو بظلم ؟  
كيف يكون ارتكاب الظلم أفدح الشرور ولا يكون تحمله أسوأ من ارتكابه أي قوة في تحمل الظلم يا سقراط؟؟ 
ألا يكون المرء سعيداً بارتكاب الشر والعيش في الظلم والهرب قدر الامكان من العقاب؟
يرى سقراط أن الخطباء من هذا النوع كالطغاة هم أقل المواطنين سلطاناً. 
فهم لا يعملون شيئا مما يريدون لكنهم يعملون ما يعتقدون بأنه الأفضل والأحسن بالنسبة لهم .  
فإذا كانت القوة المطلقة في الدولة هي الخير ونحن نفعل الأشياء المحايدة التي هي لا حسنة ولا رديئة من أجل تحقيق غاية حسنة وهي الخير. 
فالطاغية الذي يقتل وينفي ويجرد من يشاء من أملاكه لو صادف أن كان فعله هذا متعارضاً مع مصلحته أو غايته فهل تراه يفعل ذات الفعل ؟! 
بالتاكيد لا. 
 إذن هو لا يملك سلطانا على أفعاله وليس مثار حسد بل هو تعيس يستحق الرحمة. " إن أفدح الشرور هو ارتكاب الظلم".  
إن ارتكاب الظلم أفدح من أن تكون ضحية له. 
كذلك الإفلات من العقاب أفدح من تحمله، 
ثم أن ارتكاب الظلم أكثر ايلاما وضرراً. فالذين يرتكبونه يتألمون أكثر مما تتألم ضحاياهم. 
وحتى لو كان ألم التحمل أكبر فمن المؤكد أن ارتكاب الظلم أشد ضرراً.. 
فهل هناك واحد عاقل يفضل لنفسه الأكثر ضرراً؟؟ 
إن الإنسان نفس وجسد، فكما نهرع إلى الأطباء لمعالجة خلل أو ضعف أو ألم أصاب أجسادنا ونحتمل مرارة الدواء وألم العلاج وهو ليس أمراً مستحباً لكنه ضروري من أجل الشفاء كذلك هو حال النفس مع أمراضها الظلم والجهل والجبن فإن العقاب العادل يطهر النفس من نقائصها وعيوبها ... 
إن أسعد الناس إذن هو ذلك الذي تخلو نفسه من الضرر وضرر النفس هو أفدح الأضرار..  
في هذه المقارنة تحديدا تتجلَّى معنا الفائدة التي ينشدها سقراط من البيان، ألا وهي على البيان أن يستمد محتواه من مفاهيم ومبادئ مستقلة عن ذواتنا وأهوائنا الشخصية. فوظيفته تكمن في إلقاء الضوء على نقاط الخلل والضعف فينا، وتوجيه النقد لعيوبنا وأخطائنا، واقتراح حلول وأفكار لمعالجتها. 
أي أن يعمل على جعل نفوس المواطنين أفضل سواء سرّ الناس ذلك أم لم يسرّهم ...  
الجزء الثالث من المحاورة بين سقراط والشاب المندفع كاليكليس الذي يبدأها بذكر أمثلة من التاريخ التوسعي "الاستعماري" للدول ليؤكد صحة نظريته التي تقول:
 بأن مفهوم القوة الذي أثبتته الطبيعة هو القانون الأعلى، وأن الطبيعة والقانون يتعارضان، فما هو قبيح في نظر القانون قد يكون جميلاً في نظر الطبيعة، وعليه فإن الأقبح تبعاً للقانون هو ارتكاب الظلم فيما يكون الأكثر قبحاً من وجهة نظر الطبيعة هو احتماله وذلك لأن احتمال الظلم لا يلائم انساناً حراً .. 
وما القانون إلا طريقة ابتدعها الضعفاء وهم الأكثرية لكي يخيفوا فيه الأقوياء.. 
وما الظلم إلا مخالفة قانون الطبيعة الذي يثبت سيادة القوي على الضعيف والاستعلاء عليه 
فالخير ملك للأكثر قوة وسلطاناً وقيمة وهو حق له..  
 ثم إن الخير الذي يجلب السعادة، هو في أن يحقق المرء لنفسه كل رغباتها. 
أما الشجاعة من وجهة نظره هي في تجاهل الآخرين وأحكامهم وطرقهم وضعفهم الداخلي الذي يمنعهم من تقليده -كونه مثار حسد- في سبيل اشباع رغباته ..  
لكن سقراط وفي مقارنة ذكية لا تخلو من حس التهكم، يعقد مقارنة يثبت فيها أن القانون والطبيعة لا يتعارضان، إذ يقول لو كانت الأكثريه هي التي تضع التشريعات والقوانين لأنها ترى ارتكاب الظلم أكثر ضرراً من احتماله؛ فإن هذا الأمر يتفق مع الطبيعة التي تكون فيها القوة مع العدد الأكبر. 
وهذا يعني أن قوانين العدد الكبير، والتي هي قوانين الأكثرية في نظر القانون والعرف، هي قوانين الفئة الأفضل والأكثر سلطاناً وقيمة ...  
لكن كيف لنا أن نفهم وسط هذا الجدل حول الأكثرية والأقلية والأفضل والأكثر قيمة عبارة سقراط حين يقول : 
إن العدالة للشجعان وهي تقوم على المساواة ..  
تعني أن كل واحد منا هو الأذكى والأفضل في مجاله ونوع اختصاصه، إذا كنا في أقوالنا وأفعالنا نبحث عن المستحب من أجل الخير، ولا ننشد الخير من أجل المستحب .. 
أمّا الشجاعة فهي أن يكون الإنسان سيد نفسه يحكم نفسه وأهوائها قبل أن يفكر بحكم الآخرين ...
تنتهي المحاورة لتبدأ قصة سقراط وحيداً مع نفسه التوّاقه إلى عالم يسوده العدل والنظام ..
إلى عالم الآخرة... 
وإني أراه بعين نفسه سعيداً... 
حراً وقوياً...
فالعدالة نظام سماويّ التكوين، 
وخير القول والعمل صدقها ومعناها...
 وهي صديقة نفوسنا الطامحة للاستقرار والسلام ...
 إن ارتكاب الظلم يبقى الفعل الأشد ضرراً... لكن هل احتمال الظلم ومقاومته بالحكمة المنبثقة من مبادئ العدالة وروحها يزيدنا قوة؟؟ 
نعم، لا شكَّ في ذلك ... 
لأن كل فعلٍ إراديّ يجعلنا أقوى... 
حينها سنعرف كيف نجنب أنفسنا أهوَن الشَّرَّيْن..  
وفي جميع الأحوال لا مفرّ من التسليم للقَدَر على أمل النجاة والسلامة ...

الجمعة، 29 أبريل 2016

يا وطن ..





يا وطن تمهل... انتظر... لا تذهب
لا تغادر خريطة العالم ...
كن واقعا يتسع للجميع ...وطنا لا يقبل القسمة ....
 كن كما أراد الله لك أن تكون ...سر الكلمة... عباءة نبي...  

عيون غارقة في البحر ... صرخة الصبح في وجه السكون...

متن حضارة عانقت الشجر والحجر ...

يا وطن
أيها الصامد بحكمة وعمق الجرح لا تتركنا
 أيها الملهم المسكوب على نافذة الحلم... كن معنا كما كنت دائما ... راضيا متسامحا...ولا تلمنا على الجزء الغامض من صمتنا... على ليل هزائمنا الطويل...
يا وطن ...
نسألك بنقش ساعات الانتظار على وجه المدن المحاصرة ...
بأبجدية الشوق المنحدرة من حقائب السفر في بلاد الشتات ...
بقوة الصلوات الصاعدة إلى أوطانها السماوية ...
 بشريعة الحق ... أن تبقى

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...