الجمعة، 15 يوليو 2016

بين ذاتية الماضي وموضوعية التاريخ


هل نبالغ لو قلنا أن محاولات الإنسان الأولى على بساطتها ومحدوديتها في مواجهة تحديات الطبيعة كانت هي أساس التقدم ... أم أن هناك دافع خفي كان يجذب الإنسان إلى جوهر الأشياء والظواهر من حوله وكأن لها سلطة مطلقة لا تنفك تعطي الأمر للعقل بالتحرك والبحث عنها وسط هذا العدد الهائل من المتغيرات والتحولات؟؟ 
ومع تنامي الوعي البشري واتساع آفاقه فيما بعد هل كانت سطوة ما تم اعتباره قديماً من الثوابت والقواعد والمسلمات هي السبب في خروج العقل عنها والبحث عن طرق جديدة لإثبات حريته واستقلاليته وبرهان وجوده؟؟ رغم الإعتراف بأن القضايا التي أثارت تلك التساؤلات لا تقبل الحسم لكنها بلا شك كانت فكرة التقدم والتطور التي أشعلت وعي الإنسان، وحملت ثقل امتداد المعنى لصرخة ضميره الذي لا يهدأ حين أدرك أنه لا سبيل للتقدم إلا بالبحث... 
ولا وسيلة للفكر في ادراك حقيقة الأشياء واثبات خصائصها إلا باخضاعها لآليات بحث تناسبها .. 
فإذا كنا نرى الوجود مكتوب بلغة رياضية وهي القياس لكل شيء فهذا يعني أن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحقيقة واليقين .. 
أما إذا كانت ظروف المعرفة ضبابية ومعتمة وتعج بالتناقضات فلا بد من فكر مستقل يمعن النظر بتعمق في معنى وجدوى المبدأ والوسيلة والهدف. 
لكن ماذا عن علم الحياة والحركة"علم التاريخ" العلم الحيّ النابض بسنن التقدم والتغيير حيث الإنتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، وما يقترن بهذا الإنتقال من خوف وتوجس ورغبة قوية تتملكنا وتجعلنا حريصين كل الحرص على أن يكون التغير والتبدل ظاهرياً دون المساس بالجوهر. فترانا نتساءل متأملين بإنصاف أهمية هذا العلم عن دور العاطفة في بناء المعرفة التاريخية ؟ 
وهل يمكن فعلاً أن نكتب ونقرأ التَاريخ بموضوعية بلا تحيّز ودون أن يساور الباحث أو القارئ شعور الحُبْ أو الكَراهية ؟ 
هل نحن على استعداد إذَنْ لأن نواجه تساؤلاتنا فعندما يلتقي أي موضوع بالعاطفة لا مفر من السير في دروب بحث شائكة ووعرة وبكل تأكيد ستزداد الأمور تعقيداً وتداخلاً في حضرة وعي مرتبك غير قادر على تنظيم العلاقات بين الأفكار والأشخاص وبين الذات والموضوع.. 
لذا أرى أنه من الضروري تحديد تصوراتنا على مساحة بيضاء مسالمة ومحايدة في أذهاننا نطرح فيها كل ما يخطر ببالنا من تساؤلات وأفكار دون أن تقلقنا مسألة الحرص على أن يكون ما نبحث عنه ملائما لأفكارنا السابقة أو الرأي السائد المفروض علينا أو حتى أن نكون في موقف دفاع حتى نتمكن من تناول الفكرة من جذورها فتتضح معالم الصورة الكلية لها ... 
نعلم بأن التاريخ هو علم يدرس أحداث الماضي ويبحث في القوانين والعوامل التي توجه حركة التاريخ وعوامل نشوء الحضارات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والعلمية التي رافقتها وأسباب انهيارها واضمحلال قوتها وهو خاضع للنقد والمقارنة والتحليل والتأويل والتعديل . 
لكن ما سر هذا الخيط الرقيق الذي يربط بين التاريخ والعاطفة حتى وإن لم نكن بصدد عقد محاكمة أخلاقية للوقائع والأحداث التاريخية ؟ 
أعتقد أن السبب يرجع إلى الأساليب البدائية التي كان يدون بها التاريخ وتفسر بها الظواهر حيث امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافة، واصطبغ الواقع بشاعرية الخيال وذلك لإضفاء المزيد من الجاذبية والعذوبة والتشويق على القصة التاريخية حيث أنها كانت بالدرجة الأولى شأنها شأن أي فن أدبي تهدف إلى مخاطبة العاطفة واستعراض جمال اللغة والصورة وهذا بالطبع كان على حساب المضمون والحقائق التاريخية ..
 إن التاريخ لم يصبح علماً إلا عندما تناوله العقل بالنقد والتحليل والمقارنة ...
هنا وكنتيجة لتلك الخطوة الفارقة حدث أمر مهم بالنسبة لنظرة الإنسان للتاريخ إذ لم يعد علم دراسة الأحداث الماضية وأحوال الأمم السابقة فقط بل توسع هذا المفهوم بحيث أصبحت المادة التاريخية أداة لفهم وقراءة الحاضر من منطلق أن الحاضر ليس الا نتاج سياسات الماضي بل والتنبؤ بالمستقبل من خلال الإلمام بمعطيات الحاضر وتفاصيله .وهذا يعني انتهاء عصر القراءة الرومانسية للتاريخ والذي كان يروى كقصة أو حكاية بهدف التسلية والإمتاع وحفظ ملامح أبطال وشخوص تلك القصص في عملية تحنيط تضمن لهم خلود سيرتهم وانجازاتهم في ذاكرة الناس.. 
لكن هذه النظرة العقلانية للتاريخ لم تمنع البعض من توظيفه لغايات إضفاء الهيبة والعظمة التاريخية على قرارتهم أو بتعبير آخر كانت طريقة لــ "عقلنة" أحداث الحاضر باجترار سلوكيات قام بها الأجداد في مناسبات مشابهة لكن على قاعدة أن البشر يفكرون بطريقة ويتصرفون بطريقة أخرى فالناس و على الرغم مما يظهر عليهم من مظاهر التقدم والتطور إلا أنهم في الغالب يستأنسون بالماضي ويرون فيه ينبوعا لا ينضب من الضمانات والتبريرات والتفسيرات لما يحملونه من مشاعر وأفكار بل قد يقودهم هذا التشبث الأعمى بالماضي بدلا من محاولة التكيف مع التغييرات والتطورات التي يفرضها التقدم إلى تقديس وتبجيل أشكال من السلوكيات انتهت صلاحيتها بكل المقاييس وفقدت قيمتها النفعية. 
برأيي هذا أمر غير صحي وباعث على التناقض والاضطراب فنحن فكرياً لا نرث زمناً أو أحداثاً تاريخية بل نرث ثقافة وهي فكر وروح الحضارة. 
أما الحضارة فهي ثمرة المعرفة والثقافة والتجربة . فالثقافة قد تكون وفق المنظور الحضاري والتاريخي "نقطة تلاشي" أو "الخلاصة " عل اعتبار أنها جزء من التاريخ وهو جزء منها فهي بحاجة لزمن لكي تتشكل وتتطور وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة . لكنها في تاريخ الحضارات تتميز بكونها هي الأساس الذي ينبثق عنه التحرك التاريخي. فهل يمكن أن تقوم حضارة في بيئة انعدمت فيها العلوم والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك مثلا! هل يمكننا تحقيق انجاز بلا معطيات علمية وثقافية! من هنا يمكن القول بأن وظيفة الثقافة الأساسية تتمثل في العمل على تنظيم وتهذيب سلوك الإنسان في صراعه من أجل البقاء لتجعله مواطناً صالحاً وعضواً نافعاً في مجتمعه ثم الإرتقاء به وبمظاهر حضارته المادية إلى مستويات أفضل .. وبناء على هذه الملاحظة نستطيع تمييز نوعين من الثقافة ثقافة جامدة ساكنة في تجاهل تام لحركة الزمن مكتفيه بالمستوى الحضاري الذي وصلت إليه مهما كان بسيطا ومتواضعا مقارنة بالحضارات الآخرى ... وثقافة محركة مرنة واعية لا تتآمر على ذاتها مدركة لتحديات العصر وهي بحركتها المستمرة تلك توجد لنفسها أسباب وعوامل بقائها واستمرارها. وهذا يعني أن الوعي الذي ينصف ذاته بثقافة قابلة للتجديد والتحديث يضمن استمرارية وجوده الحضاري مهما اختلفت ظروفه المكانية الزمانية... 
من المؤكد أن التاريخ في ترابط أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل يستمد معناه وقيمته من مستوى الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة التاريخية مما يعني أن محاولة احاطة التَاريخ ِالإنسَاني بِلَمحَة بصر أو بالبحث ِالعَشوَائي بينَ السّطور أمر لا يليق بدارس وباحث حقيقي بالتالي إذا لم يتسم البَحثُ التاريخي بالمَوْضوعية والتجرد فلا مَكانِ له ولا معنى بين العُلوم ويشمل ذلك حضور العاطفة أثناء صياغة وتحليل النص التاريخي فالحب والكراهية أمور نسبيه لا تعني شيئا في قاموس السياسة والتاريخ واعتمادها كأدوات قياس لفهم وتفسير الأحداث التاريخية التي تنتجها معادلة الزمن في عالم متغير هي علامة ضعف وخلل وارتباك.. لكننا قد نشك في امكانية تحقيق ذلك قائلين : أننا نطلب المستحيل حين نشترط اقصاء العاطفة تماما في تقييم الأحداث خصوصا أن الحالة العاطفية في كثير من الأحيان تكون خارجة عن سيطرة الإنسان وهو مزيج معقد من المشاعر والأحساسيس . 
ثم أن هناك الكثير من الأفعال التي يقوم بها البشر ذات منشأ عاطفي فكيف لنا أن نقيمها ونتعامل معها ونتفهمها بشكل صحيح دون النظر لها من منظور عاطفي ؟ 
إن المشكلة ليست بالتفاعل العاطفي بحد ذاته فكل ما يحدث حولنا يفرض علينا كل لحظة واقعا جديداً له تداعياته التي تؤثر فينا هذا أمر لا خيار لنا فيه لأننا بشر لنا ثقافاتنا ومعارفنا التي لم نكتسبها دفعة واحدة بل نتيجة تفاعل الوعي مع الأحداث خلال فترة طويلة من الزمن. 
هذا بالإضافة إلى أن البشر لا يأخذون مظاهر الحضارة بالقوة والقهر، بل بنسبه ما تلقى من قبول في نفوسهم ومدى ما تقدمه من فوائد تساهم في تطوير وتجديد معارفهم.. 
لكن موطن الخلل يكمن في عدم انسجام منطق العاطفة ومعيارها الذي يجيز التناقض ويتبع الرغبة مع طبيعة المعرفة التاريخية التي تقوم على دراسة الواقع كما هو وتناوله بالنقد والتحليل ..
 ذلك أن أهم الأسباب التي تقف وراء بحثنا عن المعلومة التاريخية ومطالبتنا بإماطة اللثام عن دوافع التغيير لكل مرحلة زمنية هي حاجتنا لرؤية مسؤولة تتسم بالشفافية والحياد ... 
لنضوج له شكل محدد يعالج تناقضاتنا ويقرب بين وجهات النظر المختلفة ويخضع أحكام العاطفة المتسرعة لسلطة العقل... 
كذلك يدخل في نفس الإطار لو قمنا مثلا بربط موضوع ينتمي لموجود متحرك وهو التاريخ الذي جوهره التغيير والإختلاف والتفرد أو عادات يمكن أن تنشأ تلقائيا عن الحياة اليومية لمجتمع ما بمفاهيم نحسب أن تصوراتنا عنها مطلقة, وثابتة كالخير والشر أو الصواب والخطأ،
 ثم تفسير وتقييم الواقع من خلالها متجاهلين تماما أن مضمون هذين المصطلحين أصلا قد تعرض للتغيير والتعديل في وعينا مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان. 
إن اعتماد هذا النمط من التفكير وفي كلتا الحالتين ليس إلا شكلاً من أشكال الوعي الزائف ولا أرى فيه إلا وسيلة تعبير عن ما يرضي الأهواء ويخدم المصلحة الخاصة ..
ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الصدامات بين وجهات نظر مناقضة للواقع ورؤية منحرفة حافلة بالنقائص مجيشة عاطفيا لا يمكن بواسطتها استخراج خصائص عالية التجريد توضح معالم الصورة الحقيقية للأشياء وتكشف عن القوانين الكلية التي تحكمها وتحولها من مرحلة إلى أخرى. 
وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ليست من مهام المؤرخ ولا من مهامنا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار فهذه قراءة غير عادلة تفتقر إلى الدقة والنزاهة خصوصاً لو كنا بصدد البحث عن الأسباب والغايات التي تقف وراء الأحداث التاريخية فما ينطبق على البعض ليس بالضرورة أن ينطبق على الكل وما هو خير أو شر في زمان ومكان محددين قد لا يكون خيرا أو شراً في زمان ومكان آخرين. 
إن ما يمكن اعتباره تصوراُ منطقياً وموضوعياً للخير والشر وصورة حضارية من صور رقابة الضمير على السلوك الانساني وعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى التعاطف والاجتماع والتعاون مع الآخرين و استجابة لحاجة الإنسان للحماية والشعور بالأمان ضمن جماعته التي ينتمي إليها هو حين عرف الإنسان من خلال فهمه ووعيه لهذين المصطلحين الخير والشر ماهية الحق والواجب واشتق تشريعاته وقوانينه لغايات تنظيم حياته في كافة المجالات . 
وما ينطبق على علاقة الفرد مع مجتمعه أو دولته ينطبق أيضا على الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.. 
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلغي أو نتجاهل أهمية القيم الأخلاقية ودورها حتى لو كانت على أرض الواقع غير قادرة على مجاراة القوة التي جعلت الإقتصاد والتسلح العسكري هي مجالات التنافس والصراع بين الدول.. 
والآن هل هناك ما هو أكثر سوءاً وسذاجة من الإعتقاد بأن التاريخ مدينة يسكن المنتصرون في متونها بينما يكتفي المهزومون بالهوامش ؟ 
الحق أن عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا أرى فيها أكثر من وجهة نظر مهمة قيلت في ظروف سياسية معينة تناسبها أمّا السذاجة الحقيقية كانت في انتشارها كمفهوم للتاريخ واعتبارها قاعدة من قواعد المعرفة التاريخية. فما جاء به التاريخ لا يختلف عن واقع عالمنا المعاصر الذي تحكمه وتحركه المصالح ولا يخالف قانون الزمن الذي لم يستثنِ أمةً أو مجتمع من حركة التغيير تلك ولم تسلم بفضله فئة من خوض صراعها الحضاري في سبيل تحقيق ذاتها... 
ولا ننسى أنه وفي الجهة المقابلة من التاريخ هناك جانب مشرق قائم على الحلول الوسط .... جانب أكثر سلاماً وهدوءاً يؤكد لنا التاريخ فيه أن الحضارات تتلاقح وتتكامل فلا حدود فيها للكفاية فيما تقدمه للإنسان من وسائل الرقي والتطور والتفاهم والأمان والاستقرار والسلام . 
في النهاية تبقى مسؤولية المؤرخ مسؤولية أخلاقية فهو الضمير الذي تستند إليه البشرية للوصول إلى الحقيقة والهدف ليس اثارة المشاعر وشحن النفوس بل مخاطبة العقل وتحفيزه برؤية متكاملة للتاريخ بكل ما يحتويه من قيم ثقافية وجمالية تشجع الناس على تقبل الآخر واستيعاب تطورات العصر والانسجام معها بأقل عدد ممكن من الأخطاء والخسائر، أي أن يقدم لنا من مستودع الخبرة البشرية ما يثبت أن الكلَّ في دائرة الزمن تاريخ...

السبت، 21 مايو 2016

البتراء




البـــتــــراء


ما أجملها... 

حين يرتفع منها اللون منافساً عذوبة حمرة الأفق 

على جبين السماء..
حين تبوح بدلالات رموزها ...

 بسر صمودها وشموخها وصمت حزنها الأنيق ...
في أن تكون وردة مخفية في رحم مساحة حرة تحتضن أنماط الحياة ...

وواحة آمنة على طريق سفر طويل... 

البتراء... هي الصخرة التي لا تخون ...

هي النتيجة المنطقية لتواصل العاطفة مع الذاكرة

هي تسجيل الحوار الداخلي لزمن استعصى على النسيان...

هي حالة فريدة من السّلام والتفاهم والتناغم بين البشر والحجر.

 بين الروح والمادة. 

بين سطوة التاريخ ورقة الحضارة.

الثلاثاء، 17 مايو 2016

قراءة في محاورة جورجياس لأفلاطون البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية ...

كان فنّ الخطابة في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد هو السبيل الوحيد للوصول إلى مراتب ومراكز عليا في أثينا، سواء في مجالس الحكم والجمعيات أو مراكز النفوذ والسلطة. 
هذا بالإضافة إلى أنه كان وسيلة للثراء والكسب السريع نظراً لرواج مدارسه كنوع جديد وجذاب من التعليم العالي يحظى باحترام الجميع وتقديرهم ....  
(فن البيان) أو البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية 
هذا هو الموضوع الذي تتحدث عنه محاورة جورجياس التي كتبها أفلاطون في الفترة التي تقع بين ( 395 -390) ق.م. 
 ما هو البيان؟ وما الفائدة منه ؟ وهل هو حقاً فن الكذب الضار بالدول والأفراد ؟  
تلك هي الأفكار الني يناقشها أفلاطون في المحاورة. 
حيث يتقابل المذهب الفكري السقراطي القائم على أهمية حضور الخير والحق والعدل في حياة الإنسان ومدى أثرها على سلوكه ... 
مع فكر السفسطائيين وأتباعهم وطريقة توظيفهم الفوضوية للبيان لغايات تحقيق مآرب أو منافع شخصية واقناع الشعب واستغلال جهله بخطابات بعيدة كل البعد عن الحق والفضيلة والعدل والمصلحة العامة...  
اختار افلاطون أطراف الحوار بحيث تمثل تنوع الطباع في مجتمع أثينا فكانت الشخصية الرئيسية سقراط في مواجهة ثلاثة من السفسطائيين وهم جورجياس أستاذ البيان بقلبه المفتوح لإسئلة الجمهور والذي يعرف بخبرته كيف يجنب نفسه الوقوع في فخ التأكيدات لكنه واثق كل الثقة من أنه منذ أصبح خطيبا لم يوجه له أحد سؤالاً قد يكون مفاجأة له ....  
بولوس المتحمس لفكرته وحاله كحال جورجياس يعرف متى يتراجع عنها في حال استشعر ضعفها وتناقضها مع المبادئ والقيم. 
أما كالكليس فيختلف عن سابقيه باندفاعه وتسرعه لإثبات فكرته على حساب الأخلاق والقيم،وهو بطبعه هذا نراه ينهي النقاش مع سقراط غاضباً أكثر من مرة لكنه وبإلحاح من جورجياس يكمله على مضض مستمعاً فقط ومجيباً بمجاملات عقيمة تكشف اصراره على البقاء على طباعه وأفكاره متجاهلا كل ما يقوله سقراط !  
كان لسقراط أسلوبه المميز في ايصال رسالته أو ما يسمى بـ"الديالكتيك" وبواسطته يستعرض أفلاطون تلميذ سقراط الأكثر شهرة في مؤلفاته أفكاره ونظرياته فهو يبدأ بطرح الأسئلة على خصومه بحيث يختارها بطريقة تجعل خصمه يقع في التناقض حتى إذا ما وصل إلى هذه المرحله التي يؤكد فيها لخصمه بأنه لا يمتلك الحقيقة يعود سقراط لطرح الأسئلة من جديد لكن هذه المرة حول ماهية الموضوع بهدف البحث عن الحقيقة وللوصول إلى نتيجة أو إقرار. 
  ولأن البيان هو أفضل وأجمل الفنون جميعاً على حد قول بولوس. 
فقد رأى سقراط في هذا القول مدحاً لا اجابة على سؤاله ما هو البيان.  
فإذا كان البيان هو ذلك الفن الذي يحقق مهمته بالكلام وحده وقد اكتسب بهذه الصفة الأفضليه على غيره من الفنون فماذا سيقول كل من الطبيب والتاجر والفلكي والموسيقيّ وغيرهم عن فنه وهي متصلة أيضا بالبيان لكن لها جانب عملي يشترط فيه سقراط دائما أن تكون غاياته من أجل الخير والفضيلة ... 
 هذا التساؤل يدفع بجورجياس للقول بأن البيان هو عامل اقناع، ومهمته هي الإقناع وتحقيق السيادة في المجتمع، 
أي القدرة على اقناع القضاة في المحاكم والمواطنين في مجالسهم وتجمعاتهم، 
لأن البيان يضمن جميع القوى ويسيطر عليها، فالخطيب قادر على اقناع الناس بفكرته وله سلطة بأن يملي عليهم من يراه هو مناسبا من أصحاب المهن المختلفة وفي الانتخابات. 
لكن هذا لا يعني أن يتم استخدام البيان في أمر ينافي العدالة والإستقامة فهو كغيره من فنون القتال لا تستعمل بذات الطريقة مع الأصدقاء والأعداء.. هنا يتساءل سقراط أي نوع من الإقناع فكل أنواع العلوم عوامل إقناع ليس البيان وحده ! 
لذا لابد من التفريق بين العلم أو المعرفة والإعتقاد. 
فنقول مثلا هناك اعتقاد حق وآخر باطل لكن لا يمكن اطلاقاً أن نقول هناك علم باطل وعلم حق. 
وعلى هذا الأساس فإن البيان الذي يدعيه جورجياس هو عامل اقناع عقيدة وليس اقناع علم حيث أنه يُكسب المتلقي رأياً لا علماً ،فهو لا يحتاج إلى معرفة الحقائق حول الأشياء التي يتحدث عنها حسبه أن يجد طريقة يقنع بها الآخرين...
  أمّا القوة التي يُحَمِّلها بعض الخطباء للبيان وتجعل الخطيب متفوقا على أصحاب العلم أنفسهم فيخضع لها المتلقي الجاهل الذي لا يملك أي معرفة حول الموضوع المطروح.. 
هنا وفي نظر الجهلة فقط يكون الخطباء أكثر علماً من العلماء وأصحاب الاختصاص... 
 أما التناقض الصارخ الذي وقع فيه جورجياس ولم يكن صعباً على رجل مثل سقراط برع في مزج العلم بالعمل وكانت حياته تجسيداً عمليا لأفكاره الإمساك به. 
فجورجياس يفترض أن البيان لا يمكن أن يكون ظالماً، وهو فن ينشد العدالة دائما ويُعلِّمها، فكيف يقول فيما بعد بأن لا مسؤوليه على أستاذ البيان في حال لم يتصرف أحد تلامذته وفق العدالة. 
وهذا التناقض إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن البيان قد يستخدم استخداما ظالما !
 أليس من عرف العدالة وتعلَّمها سيتصرف وفقها؟؟؟  
يكمل سقراط تعريفه للبيان في محاورته الثانية مع بولوس، ونراه في هذا الجزء ينزع رداء المثالية عن البيان فيقول:
 بأنه لا يراه فناً على الإطلاق، فهو ليس أكثر من تجربة وممارسة وتدريب، شأنه شأن الطهي مثلاً، فكلاهما يهدفان إلى انتاج نوع خاص من اللذه والمتعة والسعادة. 
وهذه النقطة تحديدا هي ما دفعت سقراط إلى اعتبار البيان جزءً من التملق كما هو جزء من السياسة. 
فالخطيب لا يمانع من أن يضع على فكرته أي قناع، كشكل من أشكال الزينة للفوز بالاعتبار ورضا الناس واستحسانهم. 
وهذا سلوك لا يوافق مبادئ العدالة، ولا يحقق الخير وهو شيء رديء وضار...  
وبدوري أتساءل مع سقراط أي سعادة تلك التي سيحققها لنا هذا النوع من الخطاب حين يُحرَم الناس من قدرتهم على التمييز والتقدير وحقهم في الاختيار ؟؟؟ 
وكم يطيب لنا التأمل والتفكر والتعلم في اجابات سقراط على تساؤلات بولوس ... 
أليس للخطباء سلطان قوي في الدولة يقتلون وينفون من يشاؤون من الناس؟؟ 
ألا يكون الرجل الذي يمتلك تلك القوة جديراً بالحسد سواء فعل ذلك بعدل أو بظلم ؟  
كيف يكون ارتكاب الظلم أفدح الشرور ولا يكون تحمله أسوأ من ارتكابه أي قوة في تحمل الظلم يا سقراط؟؟ 
ألا يكون المرء سعيداً بارتكاب الشر والعيش في الظلم والهرب قدر الامكان من العقاب؟
يرى سقراط أن الخطباء من هذا النوع كالطغاة هم أقل المواطنين سلطاناً. 
فهم لا يعملون شيئا مما يريدون لكنهم يعملون ما يعتقدون بأنه الأفضل والأحسن بالنسبة لهم .  
فإذا كانت القوة المطلقة في الدولة هي الخير ونحن نفعل الأشياء المحايدة التي هي لا حسنة ولا رديئة من أجل تحقيق غاية حسنة وهي الخير. 
فالطاغية الذي يقتل وينفي ويجرد من يشاء من أملاكه لو صادف أن كان فعله هذا متعارضاً مع مصلحته أو غايته فهل تراه يفعل ذات الفعل ؟! 
بالتاكيد لا. 
 إذن هو لا يملك سلطانا على أفعاله وليس مثار حسد بل هو تعيس يستحق الرحمة. " إن أفدح الشرور هو ارتكاب الظلم".  
إن ارتكاب الظلم أفدح من أن تكون ضحية له. 
كذلك الإفلات من العقاب أفدح من تحمله، 
ثم أن ارتكاب الظلم أكثر ايلاما وضرراً. فالذين يرتكبونه يتألمون أكثر مما تتألم ضحاياهم. 
وحتى لو كان ألم التحمل أكبر فمن المؤكد أن ارتكاب الظلم أشد ضرراً.. 
فهل هناك واحد عاقل يفضل لنفسه الأكثر ضرراً؟؟ 
إن الإنسان نفس وجسد، فكما نهرع إلى الأطباء لمعالجة خلل أو ضعف أو ألم أصاب أجسادنا ونحتمل مرارة الدواء وألم العلاج وهو ليس أمراً مستحباً لكنه ضروري من أجل الشفاء كذلك هو حال النفس مع أمراضها الظلم والجهل والجبن فإن العقاب العادل يطهر النفس من نقائصها وعيوبها ... 
إن أسعد الناس إذن هو ذلك الذي تخلو نفسه من الضرر وضرر النفس هو أفدح الأضرار..  
في هذه المقارنة تحديدا تتجلَّى معنا الفائدة التي ينشدها سقراط من البيان، ألا وهي على البيان أن يستمد محتواه من مفاهيم ومبادئ مستقلة عن ذواتنا وأهوائنا الشخصية. فوظيفته تكمن في إلقاء الضوء على نقاط الخلل والضعف فينا، وتوجيه النقد لعيوبنا وأخطائنا، واقتراح حلول وأفكار لمعالجتها. 
أي أن يعمل على جعل نفوس المواطنين أفضل سواء سرّ الناس ذلك أم لم يسرّهم ...  
الجزء الثالث من المحاورة بين سقراط والشاب المندفع كاليكليس الذي يبدأها بذكر أمثلة من التاريخ التوسعي "الاستعماري" للدول ليؤكد صحة نظريته التي تقول:
 بأن مفهوم القوة الذي أثبتته الطبيعة هو القانون الأعلى، وأن الطبيعة والقانون يتعارضان، فما هو قبيح في نظر القانون قد يكون جميلاً في نظر الطبيعة، وعليه فإن الأقبح تبعاً للقانون هو ارتكاب الظلم فيما يكون الأكثر قبحاً من وجهة نظر الطبيعة هو احتماله وذلك لأن احتمال الظلم لا يلائم انساناً حراً .. 
وما القانون إلا طريقة ابتدعها الضعفاء وهم الأكثرية لكي يخيفوا فيه الأقوياء.. 
وما الظلم إلا مخالفة قانون الطبيعة الذي يثبت سيادة القوي على الضعيف والاستعلاء عليه 
فالخير ملك للأكثر قوة وسلطاناً وقيمة وهو حق له..  
 ثم إن الخير الذي يجلب السعادة، هو في أن يحقق المرء لنفسه كل رغباتها. 
أما الشجاعة من وجهة نظره هي في تجاهل الآخرين وأحكامهم وطرقهم وضعفهم الداخلي الذي يمنعهم من تقليده -كونه مثار حسد- في سبيل اشباع رغباته ..  
لكن سقراط وفي مقارنة ذكية لا تخلو من حس التهكم، يعقد مقارنة يثبت فيها أن القانون والطبيعة لا يتعارضان، إذ يقول لو كانت الأكثريه هي التي تضع التشريعات والقوانين لأنها ترى ارتكاب الظلم أكثر ضرراً من احتماله؛ فإن هذا الأمر يتفق مع الطبيعة التي تكون فيها القوة مع العدد الأكبر. 
وهذا يعني أن قوانين العدد الكبير، والتي هي قوانين الأكثرية في نظر القانون والعرف، هي قوانين الفئة الأفضل والأكثر سلطاناً وقيمة ...  
لكن كيف لنا أن نفهم وسط هذا الجدل حول الأكثرية والأقلية والأفضل والأكثر قيمة عبارة سقراط حين يقول : 
إن العدالة للشجعان وهي تقوم على المساواة ..  
تعني أن كل واحد منا هو الأذكى والأفضل في مجاله ونوع اختصاصه، إذا كنا في أقوالنا وأفعالنا نبحث عن المستحب من أجل الخير، ولا ننشد الخير من أجل المستحب .. 
أمّا الشجاعة فهي أن يكون الإنسان سيد نفسه يحكم نفسه وأهوائها قبل أن يفكر بحكم الآخرين ...
تنتهي المحاورة لتبدأ قصة سقراط وحيداً مع نفسه التوّاقه إلى عالم يسوده العدل والنظام ..
إلى عالم الآخرة... 
وإني أراه بعين نفسه سعيداً... 
حراً وقوياً...
فالعدالة نظام سماويّ التكوين، 
وخير القول والعمل صدقها ومعناها...
 وهي صديقة نفوسنا الطامحة للاستقرار والسلام ...
 إن ارتكاب الظلم يبقى الفعل الأشد ضرراً... لكن هل احتمال الظلم ومقاومته بالحكمة المنبثقة من مبادئ العدالة وروحها يزيدنا قوة؟؟ 
نعم، لا شكَّ في ذلك ... 
لأن كل فعلٍ إراديّ يجعلنا أقوى... 
حينها سنعرف كيف نجنب أنفسنا أهوَن الشَّرَّيْن..  
وفي جميع الأحوال لا مفرّ من التسليم للقَدَر على أمل النجاة والسلامة ...

الجمعة، 29 أبريل 2016

يا وطن ..





يا وطن تمهل... انتظر... لا تذهب
لا تغادر خريطة العالم ...
كن واقعا يتسع للجميع ...وطنا لا يقبل القسمة ....
 كن كما أراد الله لك أن تكون ...سر الكلمة... عباءة نبي...  

عيون غارقة في البحر ... صرخة الصبح في وجه السكون...

متن حضارة عانقت الشجر والحجر ...

يا وطن
أيها الصامد بحكمة وعمق الجرح لا تتركنا
 أيها الملهم المسكوب على نافذة الحلم... كن معنا كما كنت دائما ... راضيا متسامحا...ولا تلمنا على الجزء الغامض من صمتنا... على ليل هزائمنا الطويل...
يا وطن ...
نسألك بنقش ساعات الانتظار على وجه المدن المحاصرة ...
بأبجدية الشوق المنحدرة من حقائب السفر في بلاد الشتات ...
بقوة الصلوات الصاعدة إلى أوطانها السماوية ...
 بشريعة الحق ... أن تبقى

الأربعاء، 27 أبريل 2016

روح..وحنين...وذاكرة

رغم أن الموت هو توقف القلب عن العمل حيث يرحل إلى غير رجعة  سر الحياة من الجسد إلا أنه يبقى من حديث الرحيل سر ضبابي يعمل في الخفاء ... 
حنين لا يموت ولا يفنى ... 
تبثه الأرض بانتظام أثناء احتضانها للجسد.
وأمام عظمة الحنين وعنفوانه واصراره على أن يكون حاضراً في أوقاتنا كالشمس والقمر..  
ولأن قلوبنا حين تفارق من تحب تصبح أكثر رقة تحرقها شرارة شوق؛ فلا مفرّ من التسليم له والاقتران بخطوطه اللامرئية..  
دائما، وفي كلّ قصص الموت هناك أشياءٌ لا تموت روح ... وحنين... وذاكرة !!!

الأحد، 24 أبريل 2016

نهارك المنتظر..

أن تحب يعني أن ترى في فضاءات حضوره كوناً متجدداً لا تمل حواسك من التحليق بين شموسه وأقماره التي لا تعد ولا تحصى!!
أن تخبره كيف أصبحت ساعات النهار على قلتها تغطي فيك مساحات الأمل...
وكيف أمسى الليل حارساً على طقوس اكتمال القمر، وشاهداً على أحاديث حنين تتوهج بالتزامن مع إيقاع كل تفاعل نجميّ يكسر بمجاز الضوء صمت الظلام.
فالحنين في الحب هو أن تحترق إنتظاراً وشوقاً لنبضٍ يضيء في دمك بينما تهمس له قائلا: ها أنا برغم واقعي المشحون بآلام الوعي أتصاعد فيك كطيف حلم.
الحب هو أن تسمح لفرح غامض بأن يسْتَلَّ من دروب يومك المتشعبة تفاصيلها الغريبة.
أن يكون هو نشيدك الكوني الذي يحفظك وتحفظه عن ظهر قلب وتدوّن بإسمه صفحات عمرك لكي تجد نفسك فيه ...
الحب هو أن يمتلئ عالمك بذلك الإختيار الإرادي رغم إيمانك بأن الحب لا يتشكل في القلوب إلا يقيناً يكتشفنا، ويختر عنا،ويعيد صياغة أيامنا، ويأخذنا دائماً إلى حيث لا ندري.
الحب هو أن تشتعل بسرّ جمال تزهو به مرآه القلب ...
جمال لم ولن يتكرر على وجه بشر ...
فلا أحد يراه كما تراه أنت، ولا أحد يدرك تسارع لهفتك لرؤيته كما تدركها أنت ..
أما اللهفة في الحب هي أن تقول للحلم الذي فاض من يديه : تعال أيها المضمّخ بأغنيات الفرح ونسائم السلام تعال إلى أيامي وانتشر ..
الحب هو التحرر التام من قيود اللغة لذا سمه ما شئت فمن العبث محاولة اخراجه من بؤرة الشعور.
ولماذا عليك أن تكون موضوعياً وحيادياً في مسألة داهمت كيانك كشلال هادر!
فأنت حين تحب تتحول إلى أبجدية من نار لا تخشى شيئاً ولا تحسب حساب أحد.
وتصير روحاً عاشقة هائمة أشبه بعصفور قدسته سماوات الحرية ...
فالحرية في الحب هي أن يتدفق كل منا في دم وفكر وروح الآخر
بلا قيد أو شرط...
بلا توقف أو نهاية ...
يولد الحب وينمو ويكبر في صدرك معززاً مكرماً، يحتلك هذا الطفل الذي يطوق عنقك حين ينظر إليك بعينين شفافتين تقرآن بصوتك حالة وجود مرهونة بحركة كوكب يعوم في السماء بحثاً عن طيف نهار.
نهار ينتشلك من لعنة اللاعودة وليلها الأبدي.
من موتك الرمادي.
من وديان ذاكرتك النازفة.
من ثقل هم يوقظ جراحك بظلم يعيد نفسه في دروبك.
هو الحب وحده نهارك المنتظر، يحملك إلى مجرات من نور وطمأنينة، لا يمسها ظلام خوف، ولا تطالها ثرثرة الرماد .

الجمعة، 1 أبريل 2016

قراءات في الذات الإنسانية.. الشخصية



كم نستهين بدوافع فعالياتنا الشعورية... بأسرار ادراكنا، ووجداننا، ونزعاتنا!!
بل كثيراً ما نفضل السير على خطى قوى عالمنا المضطرب حين نتجاهل أسباب صراعاتنا الداخلية ونختلق فلسفة مشوهة للقوة وكأننا في حربٍ دائمة لا نهاية لها وقودها عقل منغلق وقلب متبلد وكرامة انسانية غائبة ..
وكم نخطئ في حق أنفسنا وفي حق الآخرين حين نصدر أحكامنا مكْتَفِين ببعض المظاهر الجسدية والسلوكيات الظاهرة والصور النمطية التي تفتقر إلى الوضوح والمنطق دون أدنى فكرة عن طبيعة الشخصية الإنسانية ....
وكأننا في حديثنا عن أنفسنا وعن الآخر نخوض جدالاً عقيماً تناسينا أو نسينا فيه أننا مختلفون !! لكننا مجبرون رغم الإختلاف والخلاف على ايجاد نقاط مشتركة ومساحة للحوار والعيش المشترك تعطي لكلّ ذي حق حقه ولكل شخصية حرية التعبير عن هويتها المميزة التي جُبِلَتْ عليها ....
يقول الشاعر الألماني يوهان غوته:
"تنمو الموهبة مع الهدوء والسكون ، و تنمو الشخصية بخوض معترك الحياة"
فما هي الشخصية ؟؟ ما هي مكوناتها؟؟ وما علاقتها بالطباع والمظاهر الجسدية والمادية و البيئة المحيطة بها ؟؟
رغم كثرة التعريفات حول الشخصية يمكن القول بأن الشخصية هي : 
مجموع الاستعدادات والميول والسلوكيات والإهتمامات والقدرات والمواهب والصفات الثابتة التي يتصف بها الفرد والمستمدة من موروثه الجيني ومحيطه التربوي والإجتماعي واتحادها اتحاداً مميزاً بحيث تجعل الفرد مميزا عن الآخرين .
لكن ما هي العوامل التي تؤثر على الشخصية الإنسانية؟؟
مما لا شك فيه أننا من الناحية البيولوجية نخضع لنظام غددنا الصماء فالهرمونات تؤثر على بناء الشخصية وأنماطها وتنظيمها وأيّ خلل أو اضطراب يصيب هذه الغدد سينعكس على سلوك الفرد.
أما الجهاز العصبي فهو يساعدنا على التكيف والمواءمة والمرونة في التعامل مع الأوضاع والظروف الاجتماعية المختلفة..
ومن العوامل المهمة المؤثرة على الشخصية هي المظاهر الجسدية فإن الجسم المتمتع بالصحة والقوة يجعل الفرد واثقاً من نفسه ،مقبلاً على الحياة، لكن في حالة كان الجسم ضعيفاً ومعتلاً أو مريضاً سينعكس ذلك على الشخصية ويضعفها نتيجة الشعور بالنقص وقد تدفع تلك المشاعر السلبية بصاحبها إلى فقدان الطموح والانطواء والانسحاب من الحياة ما لم يتلقَّ الرعاية الصحية والنفسية اللازمة بحيث يصبح بإمكانة المشاركة والمساهمة والتفاعل مع مجتمعه دون حواجز أو قيود ...
هذا بالإضافة إلى أن صفاتنا الجسدية تترك آثارها على شخصياتنا من خلال نظرة الآخرين المحيطين بنا فنظرتنا لأنفسنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظرة الناس إلينا وانطباعاتهم وتصوراتهم لكن حكم الناس في الغالب لن يكون منصفاً لنا لإعتماده فقط على المظاهر الجسدية والمادية واغفال المضمون والطباع المكونة للشخصية هذا غير أنهم يوظفون منطق العاطفة للخروج بتصور يرضي رغباتهم بغضّ النظر إن كانت هذه الصفات التي يطلقونها على الأشخاص موجودة فعلا أم هي مجرد اسقاطات أو تكهنات وخيالات...
ومن هذه النقطة تحديداً أذكر مقولة دارجة في ثقافتنا "كـلُّ يرى الناس بعين طبعه" يمكن اعتبارها تلخيصاً لما سبق...
ما دور العقل والعاطفة في تكوين الشخصية؟
إن النظرة المتزنة للأمور، الذكاء والقدرات ،الاهتمام بالتفاصيل التكيف مع البيئة والتفاعل معها ، قوة الذاكرة ، وحسن التصرف في الأوقات الصعبة كلها مقومات أساسية من مقومات الشخصية أما العاطفة فلولاها لما أخذت الشخصية هويتها المميزة وهي بالنسبة للآخرين تشكل دلالات يستطيع الناس من خلالها ادراك مواقفهم وتصوراتهم حول الشخصية..
والعاطفة هي مجموعة من الانفعالات تتركز حول موضوع معين تدفع الإنسان إلى القيام بسلوك يرتبط بهذا الموضوع.والعاطفة سواء كانت عاطفة حب أو بغض تتشكل نتيجة التجارب التي نخوضها والخبرات التي نكتسبها في هذه الحياة ..
والآن يجدر بنا التساؤل حول تأثير الطبع وأصالة الفطرة على الشخصية وهل يمكن توجيه الطباع وصقلها بحيث تتكامل الشخصية وتتناغم عناصرها بشكل يظهرها كوحدة متماسكة ؟؟
ترتبط الطباع ارتباطاً وثيقاً بالمظاهر الجسدية والظروف والبيئة والعاطفة ...
 والطبع : هو الصفة الفطرية التي ولدت مع الكائن الحي وما يقوله المفهوم الشائع الجامد عن الطباع هو استحالة تغيرها من حالة إلى حالة حيث تلعب الوراثة دورا رئيسياً فيها وقديماً آمن الناس بدور الوارثة من خلال ملاحظتهم للشبه الكبير بين الأباء والأبناء...
بقي هذا المفهوم سائداً حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث بينت نتائج تجارب العالم النمساوي مندل (1822-1884) واضع أسس علم الوراثة آلية انتقال الصفات الوراثية من الآباء للأبناء وكيف أن هناك صفات سائدة وأخرى متنحية قد لا تظهر في الجيل الأول لكنها قد تظهر في أجيال لاحقة...
لكن في المقابل تم رفض الحرية المطلقة للصفات الوراثية وبدأ العلماء يركزون على أهمية التربية والترويض في صقل الطباع وتهذيبها ..
أما ما كان يسعى العلم إليه حقا في هذا الاتجاه هو اثبات أن المادة الوراثية غير منفصلة عن الظروف المحيطة بها فهي قابلة للتكيف والتطور بما يناسب البيئة والظروف المحيطة. لخصها "إيفان ميتشورين" (1855 - 1935) وهو عالم بيولوجي سوڤياتي انطلاقاً من فرضية أن "الصفات المكتسبة تتنقل بالوراثة" بقوله :
"إننا لا نستطيع انتظار احسان الطبيعة بل إن عملنا هو انتزاع هذا الأمر منها"
وبين ما هو فطري ومكتسب ولفهم كيف تتكامل الشخصية عند سيغموند فرويد ( 1856 - 1939) مؤسس علم التحليل النفسي فقد اعتبر أن الشخصية الإنسانية تتكون من ثلاثة أقسام :
-طبقة دنيا الهو Id : وهي مصدر الطاقة والدوافع البيولوجية الغرائز والرغبات المكبوتة لا تحكمها الضوابط غايتها الحصول على اللذة بأي طريقة ...
-الانا الأعلى الطبقة العليا Super Ego :هي السلطة الداخلية أو الضمير مستودع الأخلاقيات والآداب والمثل ..
-الانا الطبقة الوسطى Ego :وهي مركز الوعي والارادة والشعور مهمتها التوفيق بين مطالب الهو والمبادئ والقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تفرضها الأنا العليا وهو ما يسمى بتكامل الشخصية وفي حال عجز الأنا عن التوفيق بين الهو والذات العليا اضطربت الشخصية ومالت إلى السلوك الغريزي العدواني ...
من المؤكد أن البيئة العائلية والتعليم والقيم الروحية والعادات الإجتماعية جميعها مؤثرات تترك بصماتها على الشخصية وتطورها ودورها يتمثل في تحويل الطاقة القوية للغريزة أو الدوافع الفطرية إلى نشاط هادف ومقبول مثل التركيز على رعاية وتنمية المواهب والهوايات المختلفة أو تشجيع الأفراد للتوجه نحو العمل الاجتماعي التطوعي ثم السمو بدافع الغريزة وإعلائه إلى مستوى عاطفة تعمل من أجل تعزيز عاطفة اعتبار الذات والخروج من الذات الفردية إلى ذوات الآخرين والتكامل معها ...
إن الحاجة النفسية الأكثر لزوماً لتسير الانسانية في طريقها نحو تحقيق أهدافها هي الإيمان بأهمية وقدرة التربية والمحيط الجيد والرعاية الواعية للوصول إلى محصول جيد.
إن التربية السليمة التي يتلقاها الفرد في المنزل والمدرسة والقوانين العادلة التي تراعي الأسس النفسية للفرد والرعاية الصحية والاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها كفيلة بأن تجنب الأفراد ويلات الإنحرافات النفسية والعقلية ..
إن مجتمعاً يعاني أفراده من غياب العدالة وتفشي الجهل والفقر والبطالة والإهمال تبقى فيه الشخصية تحت ضغط نفسي كبير قد يتطور إلى صراع داخلي يبدد طاقتها الإيجابية ويغرقها في الاضطرابات والضعف والسلوكيات المتناقضة..
وقد يدفعها الإحباط وفقدان الهدف إلى توكيد ذاتها واثباتها من خلال اللجوء الى العدوان وايذاء الآخرين ...
فالإنسان حصاد الوراثة والتربية والظروف فلنحرص على أن نوفر لأبنائنا تربية صحيحة وظروفاً صانعة للشخصية القوية ..
وإني أرى أن الشخصية القوية هي الشخصية المتكاملة المتصالحة مع نفسها ومع محيطها... 
هي شخصية لم تقف الظروف والتجارب السيئة عائقاً أمام أصالة فطرتها وطباعها. لكنها تكاملت مع كل قيمةٍ انسانيةٍ راقية أظهرت فيها اتزان العقل وجمال العاطفة وصلابة الإرادة وسلامة الاستنتاج والمنطق ...

عندما يكون الأمل ميلادًا

  أن يكون الإنسان قادرًا على التَّحكُّم بردود أفعاله، فيرسم مساره الخاص، مُتَّخِذًا منحى التّفكير الإيجابي، ومتجاوزًا كل ما يرهق النفس ولا ي...